بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه التاسع: المكان المشهور المعروف هو الأعيان المشهورة وما يقوم بها سواء قيل إن المكان هو نفس الأجسام التي يكون الشيء عليها أو فيها، أو قيل إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي، وأما الزمان المعروف فإنه تابع للجسم، سواء قيل إنه تقدير الحركة أو مقارنة حادث لحادث أو مرور الليل والنهار؛ قال تعالى في كتابه: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [الأنعام: 1] وقال: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار [البقرة: 164] ولا نزاع بين أهل الملل أن الله سبحانه كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة، وأن وجوده لا يجب أن يقارن وجود هذه الأمكنة والأزمنة كما تقدم بيان ذلك؛ لكن مع هذه الأمكنة المخلوقة الموجودة يقدر الذهن لها أحيازا حاوية لها، ويقدر ذلك مع عدم هذه الأمكنة، [ ص: 170 ] وهذا معنى قولهم الحيز وتقدير المكان، وكذلك الذهن يقدر أن هذه الأزمنة لها دهر يحيط بها، ويقدر فيه تعاقبا كتعاقب الأزمنة، وتقدير هذا الدهر مع عدم هذه الأزمنة.

وليس الغرض هنا الكلام بأن هذا الدهر والحيز هل هو وجودي، كما يقوله بعض الناس، أو هو عدمي لا وجود له في غير الذهن، كما يقوله الجمهور، وإنما الغرض ذكر مقايسة أحدهما بالآخر، وقد علم أنه لابد من وجود واجب، وأن هذا لا يمكن النزاع فيه، وذلك هو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولا ريب أنه / لم يزل موجودا وأنه يمتنع عدمه، فإن وجوب الوجود، ينافي جواز العدم فضلا عن وقوعه، ولا نزاع بين من يقول بحدوث العالم، أو تقدمه ووجوبه عنه في أن العالم مفتقر إليه محتاج إليه وأنه متقدم عليه بالمرتبة والغلبة والذات. وهؤلاء أيضا قد يقولون: العالم محدث.

ويعنون بحدوثه وجوده بالرب، ووجوبه به، وافتقاره إليه، لا يشترطون في المحدث أن يكون معدوما ثم يوجد، والمعروف في اللغة ما هو عرف أهل الكلام وغيرهم أن المحدث ما كان بعد أن لم يكن؛ بل المحدث في اللغة أخص من المحدث عند أهل الكلام؛ فإن المحدث والحدث يقابل القديم والمتقدم، [ ص: 171 ] والقديم في اللغة ما كان متقدما على غيره، ولو كان مخلوقا كما قال تعالى: حتى عاد كالعرجون القديم [يس: 39] وقال: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [الأحقاف: 11] وقال: قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [يوسف: 95]. وقال الخليل عليه السلام: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون [الشعراء: 75-76] والأقدم أبلغ من القديم، والقديم فعيل من قدم يقدم، ومنه قولهم: أحدثي فيما قدم وما حدث.

وقد زعم بعض أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم أن القديم حقيقة فيما لم يسبقه عدم، وهو الله، وهو مجاز فيما تقدم على غيره مع كونه مخلوقا، وقال قوم: لئن حرم أن الله لا يجوز أن يسمى قديما، لأن ذلك لم يرد به الشرع، فأسماء الله شرعية. والصواب أن القديم ما تقدم على غيره في اللغة التي جاء بها القرآن، وأما كونه كان معدوما، أو لم يكن معدوما، فهذا لا يشترط في تسميته قديما، والله أحق أن يكون قديما، لأنه متقدم على كل شيء، لكن لما كان لفظ القديم فيه نواح [ ص: 172 ] لا تدل مطلقة إلا على المتقدم على غيره، كان اسم الأول أحسن منه، فجاء في أسمائه الحسنى التي في الكتاب والسنة أنه الأول، وفرق بين الأسماء التي يدعى بها وبين ما يخبر به من الألفاظ لأجل الحاجة إلى بيان معانيها، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.

فصار المتكلمون الذين يقولون إن القديم هو الله فقط وأن تسمية غيره به مجاز يجعلون –يعني القديم- الذي لم يكن معدوما، ولم يزل موجودا، وجعلوا المحدث ما كان معدوما، ثم وجد وقالـ[ وا] إن الله هو القديم، وما سواه محدث، وسبق العدم داخل في معنى المحدث عندهم، ولا ريب أن من قال إن العالم لم يزل موجودا، يقول إنه قديم، ولا ريب أن الله سبحانه قديم، سواء فسر القديم بما لم يسبقه عدم، أو فسر القديم بأنه [ ص: 173 ] متقدم على غيره، بل هو متقدم على كل شيء، إذ هو الأول الذي ليس كمثله شيء، وأما الحديث ففي اللغة لا يكون إلا ما حدث بعد أن لم يكن، وهو عند أهل اللغة مقابل للقديم ولهذا يراد به المتجدد القريب الزمان، كما يقال: تمر قديم، وتمر حديث؛ لكن هؤلاء سموا العالم محدثا باعتبار تقدم الباري عليه، وإن لم يكن / ذلك على محض اللغة.

ولهذا لم يوجد في كلام سلف الأمة وأئمتها لفظ حدوث العالم؛ لأن هذا اللفظ يقتضي التجدد المنافي للتقدم الإضافي؛ بل يقولون كما قال الله: إنه مخلوق، ونحو ذلك [مـ] ما أخبرت به الرسل، وإن كان يوصف بالقدم الإضافي كما في العرجون القديم.

إذا عرف ذلك: فقول القائل: الموجود إما أن يكون قديما أو محدثا؛ إذ لا يخلو عن القدم والحدوث، ينبغي أن يعرف على هذه الاصطلاحات، فمن جعل القديم ما لم يسبقه عدم وما سوى ذلك فهو محدث يقول: الموجود إما أن يكون بعد [ ص: 174 ] عدمه، أو يكون موجودا لم يزل. وهذا تقسيم حاصر.

وعلى هذا: فالقدم له وجهان:

أحدهما: ذاتي للموصوف، وهو يعود إلى كونه أزليا، وهو كونه موجودا لم يزل، سواء قدر وجود غيره أو لم يقدر.

والثاني: أن يكون قدمه باعتبار تقدمه على غيره، وذلك معنى كونه الأول، فإن اسم الأول فيه معنى للإضافة إلى غيره، كما في المتقدم على غيره، بحيث لو لم يفرض وجود غيره لم يعقل كونه أولا أو آخرا، كما لم يفهم كونه متقدما أو سابقا.

فإذا قيل: الموجود إما أن يكون قديما أو محدثا؛ فهو بالمعنى الذاتي، إما أن يكون أزليا أو لا يكون، وبالمعنى الثاني إما أن يكون قبل غيره أو لا يكون، وكونه قبل غيره له وجوه قد تقدم ذكرها، ومن قال بقدم العالم يقول هو قبل العالم بوجه، مع أنهما أزليان، وكونه أزليا معناه أنه لم يزل موجودا. وهذا الأزلي الدايم الباقي، يقدر العقل معه دهورا متعاقبة شيئا بعد شيء، لا ابتداء لها، كما لا ابتداء له، هذا مع تقدير أنه لا وجود للزمان المعروف؛ لكن قد تقدم أن هذا الدهر المقدر لا وجود له إلا في الذهن عند أكثر الناس، ومنهم من يجعل وجوده خارجيا. وكذلك القديم بالمعنى الثاني، فإن المتقدم على غيره يعقل تقدمه عليه مع عدم الليل والنهار والزمان المعروف، والذهن يقدر بينهما دهورا متعاقبة كنحو ما يقدره مقارنا لوجود الأزل، وهكذا يوجد في اسمه "الكبير" و"العظيم" و"العلي" و"الظاهر" [ ص: 175 ] ونحوه من أسماء الله المتعلقة بالمكان؛ فإنه هو سبحانه في نفسه، قائم بنفسه، متميز بحقيقته، وهو في نفسه كبير عظيم، سواء كان غيره موجودا أو لم يكن، لكن العقل يقدر معه أحيازا خالية لا نهاية لها، وهذه تقديرات ذهنية لا وجود لها في الخارج عند عامة العقلاء، ومنهم من يزعم أنها وجودية، وهي تقدير المكان، وهذه المباينة والامتياز، وكونه بحيث يشار إليه أمر ثابت له، سواء كان غيره موجودا أو لم يكن، ثم إذا وجد غيره فهو أيضا مباين له، منفصل عنه. فمباينته تابعة لوجوده لا يكون موجودا إلا بحقيقته التي يباين بها غيره، وهو "العظيم" "الكبير" ولا يكون واجب الوجود إلا بوجوب هذه المباينة له لاختصاصه بحقيقته التي تستلزم مباينته لغيره، وهو الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق، وهو "الكبير" "العظيم" وكما أن وجوده بنفسه يقتضي أزليته، فوجوده بنفسه يقتضي عظمته وبينونته التي هي أعظم من كل عظمة وبينونة، وأن يكون أحدا صمدا، لا يخرج منه شيء، فيكون والدا، ولا يخرج من شيء فيكون ولدا، إذا حقيقته مباينة لكل شيء، فإنه كما أن وجوبه بنفسه ينافي عدمه، فلا يكون محدثا موجودا بعد عدمه، لأنه حينئذ يكون مفتقرا إلى غيره، فلا يكون وجوده بنفسه ينافي تعلقه بغيره وملابسته له بحيث يكون محتاجا إلى مماسته ومخالطته ونحو [ ص: 176 ] ذلك، فإن ذلك ينافي وجوبه بنفسه، بل هو الغني مطلقا، الصمد مطلقا. فيكون مباينا لغيره لا يحتاج إليه و[لا] يتعلق به بوجه من الوجوه، كما لا يجوز عليه العدم والحدوث بوجه من الوجوه.

وهذه المباينة لها وجهان:

أحدهما: ذاتي للموصوف، وهو يعود إلى كونه موجودا، ووجوبها يعود إلى كونه واجب الوجود صمدا.

والثاني: أن تكون مباينته باعتبار انفصاله عن غيره إذا وجد، وذلك معنى كونه الظاهر والأعلى، والظاهر في المباينة كالأول في المتقدم؛ قال تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء".

التالي السابق


الخدمات العلمية