صفحة جزء
[ ص: 106 ] [فصل]

قوله في حديث الكرب الذي رواه أحمد من حديث ابن مسعود : «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله به فرحا » .

الربيع هو المطر المنبت للربيع ، ومنه قوله في دعاء الاستسقاء : «اللهم اسقنا غيثا مغيثا ربيعا مريعا » . وهو المطر الوسمي الذي يسم الأرض بالنبات ، ومنه قول [مالك بن دينار] : القرآن ربيع المؤمن .

فسأل الله أن يجعله ماء يحيا به قلبه كما تحيا الأرض بالربيع ، ونورا لصدره ، والحياة والنور جماع الكمال ، كما قال : أومن كان ميتا [ ص: 107 ] فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس [الأنعام :122] . وفي خطبة أحمد بن حنبل : «يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى » ، لأنه بالحياة يخرج عن الموت ، وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل ، فيصير حيا عالما ناطقا ، وهو كمال الصفات في المخلوق ، وكذلك قد قيل في الخالق . حتى النصارى فسروا الأب والابن وروح القدس بالموجود الحي العالم . والغزالي رد صفات الله إلى الحي العالم ، وهو موافق في المعنى لقول الفلاسفة : عاقل ومعقول وعقل . لأن العلم يستتبع الكلام الخبري ، ويستلزم الإرادة والكلام الطلبي ، لأن كل حي عالم فله إرادة وكلام ، ويستلزم السمع والبصر .

لكن هذا ليس بجيد ، لأنه يقال : فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات ، وهو أصلها ، ولهذا كان أعظم آية في القرآن : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [البقرة :255] ، وهو الاسم الأعظم ، لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد ، فاستلزم جميع الصفات . فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفي بالحي . وهذا ينفع في الدلالة والوجود ، لكن لا يصح أن يجعل معنى العالم هو معنى المريد ، فإن الملزوم ليس هو عين اللازم ، وإلا فالذات المقدسة مستلزمة لجميع الصفات . [ ص: 108 ]

فإن قيل : فلم جمع في المطلوب لنا بين ما يوجب الحياة والنور فقط ، دون الاقتصار على الحياة أو الازدياد من القدرة وغيرها ؟

قيل : لأن الأحياء الآدميين فيهم من يهتدي إلى الحق ، وفيهم من لا يهتدي ، فالهداية كمال الحياة ، وأما القدرة فشرط في التكليف لا في السعادة ، ولا يضر فقدها ، ونور الصدر يمنع أن يريد سواه .

ثم قوله : «ربيع قلبي ونور صدري » لأنه -والله أعلم- الحيا لا يتعدى محله ، بل إذا نزل الربيع بأرض أحياها ، أما النور فإنه ينتشر ضوؤه عن محله . فلما كان الصدر حاويا للقلب جعل الربيع في القلب والنور في الصدر لانتشاره ، كما قوته المشكاة في قوله : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة [النور :35] ، وهو القلب . [ ص: 109 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية