صفحة جزء
فصل

قول من يقول : «إن لله عبادا يرضى لرضاهم ويغضب لغضبهم » حق ، لكن هذا لا يستمر في جميع أنواع رضاهم وغضبهم ، فإن ذلك إنما يكون لمن لا ذنب له أصلا ، لكن قد يكون في غالب رضاهم وغضبهم . وذلك لأن من كان رضاه وغضبه موافقا لرضى الله وغضبه فإن الله يرضى لرضاه ويغضب لغضبه ، وهذا يقع من الطرفين ، تارة يرضون لرضى الله ويغضبون لغضبه ، وتارة يرضى الله لرضاهم ويغضب لغضبهم .

ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه قال : «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه » .

فقد أخبر أنه من عادى وليه فقد بارزه بالمحاربة ، وفي المعاداة [ ص: 130 ] مغاضبة ومباغضة ، ثم قال : «فإذا أحببته كنت سمعه » إلى آخره ، إلى أن قال : «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه » . فأخبر أنه يكره ما يكره عبده الموت ، حتى يكره مساءته بالموت ، مع أنه لا بد له منه ، ويحب ما يحب . والحب والكراهة أصل الرضى والغضب .

وأيضا ففي صحيح مسلم عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها . فقال أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك » ، فأتاهم ، فقال : يا إخوتاه! أغضبتكم ؟ قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أخي أبا بكر .

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أنه إن كان أغضب أولئك المؤمنين الذين قالوا لأبي سفيان ما قالوا ، وهم بلال وصهيب وسلمان ومن معهم من أهل الإيمان والتقوى ، الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم وإن كانوا مستضعفين ، وأن لا يطيع من أغفل قلبه عن ذكر الله واتبع هواه وإن [ ص: 131 ] كان من الرؤساء فقد أغضب الله . ولا ريب أنه لو أغضبهم فإنه كان يكون ذلك انتصارا لأبي سفيان لرئاسته في قومه ، وأولئك هم أولياء الله الذين يغضبون لله ويرضون له ، فإغضابهم إغضاب لله . [ ص: 132 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية