صفحة جزء
فصل

أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلا للحاجة، والحاجة تندفع بثلاث متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقد، فما زاد على هذا فلا حاجة إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهار لم تكن به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه لا حاجة به إلى الثلاث.

فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثا لئلا تجب لها نفقة، ولا يجب أيضا سكنى عند فقهاء الحديث.

قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته. وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حق لها، فليس له أن يسقطه إلا برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن ينفق عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاط ذلك. ونفقة العدة أمر هين، ليس له لأجلها أن يوقع نفسه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعلم أن تسويغ تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع بالإبطال والإهدار.

وأيضا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعا لما [ ص: 344 ] حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه.

وأيضا فإن هذا الكلام يقتضي جواز إيقاع الثلاث جملة، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريب في وقوعه.

وإذا عرف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمى الشرعي لا يترتب عليه مفسدة راجحة، بخلاف غيره من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة الراجحة ما أوجب أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من الطلاق، فلما فعلوا ما نهوا عنه أوجب ذلك لهم ضررا في دينهم أو دنياهم، فإنهم إن لم يخالفوا أمرا آخر حصل لهم ضرر في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب البيت وتشتيت الشمل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا فيما نهوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضرر في دينهم مع الضرر في الدنيا أيضا، بالعار بدخولهم فيما نهوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر والشر لا محالة، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حصل هذا الضرر، فإن الضرر لم ينشأ من إيقاع لا وقوع معه، وإنما نشأ من إيقاع معه وقوع. فإذا قيل: إنه يقع، فالضرر حاصل لم يزل، والفساد واقع لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع الفساد ويصلح العباد، بل كان أن لا ينهوا عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرما زاد الضرر بالإثم، فيبقون آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهي عنه من باب العقود، والكلام [ ص: 345 ] الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفع موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع تارة ولا يقع أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية