صفحة جزء
ومثل ذلك قوله : «الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافح الله وقبل يمينه » .

فقال لي بعض الحاضرين : فقد روي عن مالك أنه قال في حديث النزول : ينزل أمره .

فقلت : هذا رواه حبيب كاتبه ، وهو كذاب . [ ص: 195 ]

فقال : قد روي من غير طريق حبيب ، من طريق مطرف .

وجواب هذه الرواية المنقولة عن مالك كجواب الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في مثل ذلك ، فإنه نقل عنه يوم مناظرته للجهمية أمام الخليفة أنه قال في قوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله [البقرة :210] أنه أمره . فقيل : الراوي غلط عليه ، وقيل : إنه قاله على سبيل الإلزام لهم لما احتجوا بمجيء القرآن على [أنه] مخلوق ، فقال لهم : إنما مجيء ثوابه كما قلتم في قوله : وجاء ربك [الفجر :22] : إنه أمره .

وقيل : بل هذه رواية عنه أنه يتأول صفات المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك بمعنى القصد ، ولا يتأول غيرها . وبعضهم [جعلها] رواية مخرجة عنه في بعض أحاديث الصفات التي يجب تأويلها عند هذا القائل ، وهو ابن . . . . . . ، فالكلام في المنقول عن مالك وأحمد سواء .

وهذا إذا كان قولا صحيحا ثابتا عن السلف لم يضرني ، لأني لم أذكر في العقيدة لفظ التأويل نفيا ولا إثباتا ، وإنما قلت : «من غير تحريف » والتفسير الصحيح المأثور عن السلف الذي تقوم عليه الحجة الموجبة لقبوله ليس بتحريف ، بل هو مثل ما ينقل عنهم من تفسير القرآن والحديث . فهذا إذا ثبت ليس مخالفا لما ذكرته .

وقلت للسادة الحاضرين : هل في شيء من هذه الأقوال والكلام [ ص: 196 ] كفر أو فسق ؟ فصرح أكثرهم بأنه ليس فيه كفر ولا فسق ، حتى من كان يكثر النزاع قبل ذلك المجلس ويدعي الكفر اعترف بأنه ليس فيه كفر ولا فسق .

وقال بعضهم : هذا بدعة . فأنكر جمهور الحاضرين عليه هذا القول ، وطلب . . . . . . الجمع بدعة أو أنه من البدع المستحسنة ، وغلظ بعضهم الإنكار لهذا القول .

فقلت : الكتاب والسنة لا يكون بدعة ، إنما البدعة مثل اعتقاد ابن التومرت ونحوه ، والسلف إنما كرهوا الكلام المخالف للكتاب والسنة ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام . فإنما عابوا على من ترك الكتاب والسنة .

فقال بعضهم : قد كره مالك رواية مثل هذا .

قلت : المنقول عن مالك أنه كره لمحمد بن عجلان رواية حديث الصورة ، وقد تكون كراهته مخصوصة خشية ضلال بعض الناس به ، [ ص: 197 ] كما قال [عبد الله بن مسعود] : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم . وإلا فقد حدث به سائر الأئمة ، وهو في الصحاح . وهذا الحديث ليس في هذا الاعتقاد ، وقد روى مالك في [الموطأ] حديث النزول والضحك .

قلت : وأنا لم أخاطب عامة ولا دعوت أحدا إلى اعتقاد ، وإنما كتبت لبعض القضاة .

وبلغني أنه بعد المجلس أخرج بعضهم حديث عائشة وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم » .

وجوابه أن الله ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، لم يذم أهل العلم الذين يقولون : آمنا به كل من عند ربنا ، فالذم يقع [على] المنازع الذي يسأل عن الكيفية ، ويطلب التأويل كما يعلمه المتأولون المخالفون للنص والإجماع ، ويطلب الفتنة بالتشكيك .

التالي السابق


الخدمات العلمية