صفحة جزء
فصل

قد ثبت في الصحاح بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض ، وقال : «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه » . وكانوا يتبايعون الطعام صبرة ، فنهوا بأن يبيعوه في موضعه حتى ينقلوه ، كما رواه البخاري عن ابن عمر .

واضطرب العلماء هنا في تعليل هذا النهي ثم في تعميمه وتخصيصه ، وإذا خص بماذا يخص ؟ ثم هل حكم سائر المعاوضات كالبيع أم لا ؟

فمنهم من قال : العلة في ذلك توالي الضمانين ؛ لأنه قبل القبض من ضمان البائع ، فإذا باعه صار مضمونا على البائع الثاني وهو المشتري ، فإذا تلف قبل القبض ضمن البائع الأول للمشتري الأول قيمته ، والمشتري وهو البائع الثاني للمشتري الثاني قيمته ، وقد يكون أقل أو أكثر . وهذا يعلل به من يقول به من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ، وتنازعوا في العقار . [ ص: 301 ]

وأصحاب مالك وأحمد وغيرهما يبطلون هذا التعليل من وجهين : من جهة منع الوصف ، ومنع التأثير .

أما الوصف فيقولون : لا نسلم أن كل مبيع قبل قبضه يكون مضمونا على البائع ، بل هذا خلاف السنة الثابتة ، فقد قال ابن عمر : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فضمانه على المشتري . وهذا هو الحق ، فإن المشتري قد ملكه وزيادته له ، والخراج بالضمان ، فإذا كان خراجه له كان ضمانه عليه ، لكن إذا أمكنه البائع من قبضه ولم يقبضه . فإذا لم يمكنه كان البائع غير فاعل ما أوجبه العقد ، إما لظلمه وإما لكونه لم يتمكن من قبض الثمن ، فيكون العقد لم يتم بعد ، فيكون من ضمان البائع .

وأما منع التأثير فهب أنه يتوالى فيه الضمانان ، فأي محذور في هذا حتى يكون موجبا للنهي ؟ ولو اشتراه مئة واحد من واحد رجع كل واحد على الآخر بما قبضه إياه من الثمن ، ولو ظهر المبيع مستحقا لرجعوا بذلك . وفي الشقص المشفوع لو تابعه عشرة ثم أخذه الشفيع من المشتري الأول رجع كل واحد بما أعطاه .

ومن علل بوصف فعليه أن يبين تأثير ذلك الوصف ، إما لكون الشرع جعل مثله مقتضيا للحكم ، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم [ ص: 302 ] على الوصف ، فإن لم يظهر التأثير لا شرعيا ولا عقليا كان الوصف طرديا عديم التأثير .

وآخرون قالوا : المنع يختص بالطعام لشرفه ، كما اختص به الربا . وقيل : هو مختص بما يقدر بالكيل أو الوزن . وقيل أو العدد أو الذرع ، لكونه لا يدخل في ضمان المشتري حتى يقدر بذلك ، وهو يعود إلى توالي الضمانين . وهذه الأقوال وغيرها في مذهب أحمد وغيره .

ولقائل أن يقول : إنما نهي عن ذلك لأن المبيع قبل القبض غرر ، قد يسلمه البائع وقد لا يسلمه ، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيه ، فيختار أن يكون الربح له . وهذا واقع كثير ، يبيع الرجل البيع ، فإذا رأى السعر قد ارتفع سعى في رد المبيع ، إما بجحده ، وإما باحتيال في الفسخ ، بأن يطلب فيه عيبا أو يدعي عيبا أو غرورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية