صفحة جزء
فصل

والربا البين الذي لا ريب فيه هو ربا النسيئة في الجنس الواحد ، وكذلك قال الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا شك فيه ، فقال : مثل ربا الجاهلية ، يقول له عند محل الأجل : تقضي أو تربي ؟ فإن قضاه وإلا زاده في الأجل وزاده الآخر في الدين .

فإذا بيع دراهم معينة أو في الذمة بأكثر منها إلى أجل ، فهذا من الربا العاصر المتفق عليه الذي نزل القرآن بسببه ، فإنه ضرر محض بالمحتاج ، وزيادة المال من غير عمل من صاحبه ولا نفع للناس . فإن المعاوضة ثلاثة أنواع :

أحدها : أن يشتري السلعة لينتفع بها بالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى ، فهذا هو البيع الذي أحله الله ، ولا بد منه لأهل الأرض .

والثاني : التجارة ، وهو أن يشتريها لينقلها إلى مكان آخر ، ويحبسها إلى وقت فيبيعها بربح . وهذه التجارة التي أحلها الله بقوله تعالى : إلا [ ص: 305 ] أن تكون تجارة عن تراض منكم [النساء :29] ، فإن المشتري من صاحب التجارة يعلم أنه قد ربح عليه ، وأن رأس المال مثلا كان مائة ، وقد باعها بمائة وعشرة أو أقل أو أكثر ، ولهذا يطلب المشتري من التاجر إخباره برأس المال لينظر كم يربح عليه ، وهذا بخلاف البائع الذي ليس بتاجر ، كالذي حدثت على ملكه أو ورثها أو وهبت له أو نحو ذلك .

وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا إذا اشتروا الصبرة من الطعام نهوا أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها ؛ لأن هذا المشتري تاجر إنما اشتراها ليربح فيها ، فلا بد أن يعمل فيها عمل التاجر ، من نقلها من مكان إلى مكان ، أو حبسها إلى حين يرتفع السعر ، وأن يشتري جملة ويبيع مفرقا ، ونحو ذلك . فأما إذا اشتراها وباعها في مكانها بربح من غير أن يعمل فيها شيئا فليس هذا بتاجر ، وإن كانت صارت في ضمانه بتخلية البائع بينه وبينها .

فليس كل مضمون يباح ربحه ، ولكن ما ليس بمضمون لا يباح ربحه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن ، والبائع قبل التمكن من القبض هو ضامن للمبيع ، ولا يحل له ربحه ونماؤه ، بل ذلك للمشتري ، وكذلك المشتري قبل كمال القبض وبعد التمكن منه هو ضامن ، ولا يباح له ربحه . [ ص: 306 ]

وقوله صلى الله عليه وسلم : «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه » هو نهي للتاجر الذي يشتري الطعام ثم يبيعه ، فهذا ليس له أن يبيعه حتى يستوفيه ، وإن كان معينا مضمونا عليه بالتعيين . وابن عمر روى هذا ، وروى هذا . قال ابن عمر : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ضمان المشتري . وهذا احتج به مالك وأحمد وغيرهما أن ما كان معينا ولم يمنعه البائع فهو يكون مضمونا على المشتري وإن لم يقبضه .

وروى ابن عمر أنهم كانوا يضربون إذا اشتروا الصبرة جزافا أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها . وإذا اشترى الصبرة جزافا دخلت في ضمانه أيضا ، ومتى خلي بينه وبينها كانت مضمونة على المشتري ، لكن نهي أن يبيعوها في موضعها ، وقد قال ابن عباس : لا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام . وفي السنن أنه نهى عن بيع ما لم يقبض ، وهذا خطاب للتجار ، فإنهم إذا اشتروا شيئا باعوه بربح ، فلا يبيعوه حتى يقبضوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية