صفحة جزء
وبالجملة فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا لازما دائما لا يمكن تغييره، فإنه لا نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أنه يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين.

وإنما يظن مثل ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلالة من الرافضة والخوارج، الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه. ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد.

وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا معلقا بسبب، إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة.

وبعض الناس ظن أن هذا نسخ ، لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أعز الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه. كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل أو الغارم. [ ص: 365 ]

ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان ابنه عبد الله وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.

ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إن هذا يحرم ولا يجوز، وإن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الفسخ [كان] خاصا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا مبتدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث.

وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة متعة النساء، فقال له: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر. فأنكر علي على ابن عباس إباحة لحوم الحمر وإباحة متعة النساء.

فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان [ ص: 366 ] أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة، وهو باطل، فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك. وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإن قدر أن عمر رأى ذلك لازما فهو اجتهاد منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج، لظنه أن ذلك كان خاصا. وهذا قول مرجوح، قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثابتة مع من أنكره.

وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما، قيل له: فهذا اجتهاد قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر .

ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين:

من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى غيره العقوبة به، كتحريق علي - رضي الله عنه - الزنادقة، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك.

ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، ولم يستحق العقوبة.

ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، ولما علم أن ذلك محرم تاب [ ص: 367 ] من ذلك، والتزم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا، فإنه من المتقين في باب الطلاق. فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها.

وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطت الكلام عليها في مواضع في نحو مجلدين وأكثر ، وإنما نبهنا عليها تنبيها لطيفا.

وعلى هذا الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته.

والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة 1187هـ.

بلغ مقابلة وتصحيحا) .

* * * [ ص: 368 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية