صفحة جزء
لكن تنازع المتأخرون من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : هل على العامي أن يلتزم مذهب واحد بعينه من الأئمة المشهورين ، بحيث يأخذ بعزائمه ورخصه ، على وجهين ، والمشهور الذي عليه الأكثرون من [أصحاب] الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم [أنه لا يجب] في كل شيء ، كما أنه ليس له أن يقلد في كل مسألة بمن يوافق غرضه ، وليس له أن يقلد في المسألة الواحدة إذا كان الحق له من لا يقلده إذا كان الحق عليه ، بل عليه باتفاق الأئمة أن يعدل بين نفسه وغيره في الأقوال ، فإذا اعتقد وجوب شيء أو تحريمه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله . [ ص: 439 ]

مثال ذلك شفعة الجوار ، فإن للعلماء فيها قولين مشهورين ، فمن اعتقد أحد القولين فقد قال بقول طائفة من علماء المسلمين ، وليس لأحد ثبوت الشفعة إذا كان هو الطالب ، وانتفاؤها إذا [كان] هو المطلوب ، كما يفعله الظالمون أهل الأهواء ، يتبعون في المسألة الواحدة هواهم ، فيوافقون هذا القول تارة وهذا أخرى متابعة للهوى لا مراعاة للتقوى .

وقد ذم الله من يتبع الحق إذا كان له ، ولا يتبعه إذا كان عليه ، كما في قوله تعالى : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين إلى قوله : ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور :48 - 52] .

وإذا كان جماهير العلماء لا يوجبون على أحد أن يلتزم قول شخص بعينه غير الرسول في كل شيء ، إذ في ذلك تنزيل ذلك الشخص منزلة الرسول ، وليس لأحد أن ينزل أحدا منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قد قال الصديق الذي هو أفضل الخلق بعده : «أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم » . فالرجل إذا اتبع قول بعض الأئمة في مسألة ، وقول آخر في مسألة أخرى ، إما لظهور دليل ذلك له ، وإما لترجيح بعض العلماء الذين يسوغ له تقليدهم قول هذا في هذه وقول [ ص: 440 ] هذا في هذه لم يكن على فاعل ذلك ملام ، ولم يكن ذلك الذي التزم قول واحد بعينه أحسن حالا منه ، بل هذا أحسن حالا من ذلك ، لأن الأئمة الذين توفوا كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لا يمكن كثير من العامة بل ولا أكثرهم أن يعرفوا مراتبهم في العلم والدين ، بل الخاصة من العلماء الذين لا هوى لهم قد يتعذر عليهم كثير من ذلك ، فكيف لمن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ؟

وجمهور من اتبع الواحد من هؤلاء إنما اتبعه من جهة دين العادة ، لا من جهة دين العبادة ، فإن الرجل ينشأ على مذهب أبيه أو مالكه أو أهل مدينته أو أهل خطته ونحو ذلك ، ثم يحب ذلك وينتصر له تارة بعلم وتارة بلا علم ، وتارة مع حسن النية وتارة مع فسادها . ومن المعلوم أن الله قد ذم في القرآن من يتبع دين الآباء ويدع دين ما أنزل الله على الرسول ، فقال تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة :170] .

وإذا كان كذلك فثقة المقلد بمن يثق بعلمه ودينه من أهل العلم في ترجيح قول على قول أعظم من ثقته بترجيح ما يقوله [بعض القا] ئلين مطلقا على ما يقوله الآخر ، وكذلك ثقة المستدل [بما يقتضيه] الدليل أعظم من ثقته بذلك . فمن كان قادرا على الاستدلال الذي يوصله إلى معرفة الحق في أعيان المسائل كانت هذه الطريق خيرا له ، [و] هي الواجبة عليه دون تقليد شخص واحد في كل شيء ، ومن يكن قادرا على [ ص: 441 ] التقليد ، فالتقليد المفضل لمن يثق بعلمه ودينه أقوى من التقليد العام المتضمن لفضل شخص مطلقا ، مع أن هذا العالم ينفع إذا لم يكن أخص منه . فمن علم أنه أعلم وأدين كانت الثقة بأقواله أقوى ، إذا لم يعلم رجحان أحد القولين . وتقليد الأعلم والأدين إما واجب وإما مستحب .

وجماع هذا الأصل أن الله تعالى يقول : فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن :16] ، فمن كان من أهل الإيمان واجتهد في طاعة الله ورسوله علما وعملا فلا ملام عليه ، بل يغفر الله له خطأه ، ويثيبه على صوابه .

وقد ظهر بما ذكرناه أن قول القائل : «لا بد لكل أحد من التقليد لأحد هذه [المذاهب] الأربعة » هو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ، لكن الجمهور على خلافه ، فإن هذا لا يجب على كل أحد . ومن قال : «أنا متقيد بالكتاب والسنة » لم يجز لأحد أن يقول له : أنت مارق ، ومن قال له ذلك أدب على ذلك ؛ فإن المروق هو الخروج ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج : «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية » . وهؤلاء المارقون مرقوا من السنة وخالفوا الجماعة ، فمن تقيد بالكتاب والسنة كان متبعا لا مبتدعا ، ومطيعا لا عاصيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية