صفحة جزء
[ ص: 81 ] فصل

في الكلام على الاتحادية [ ص: 82 ] ومن كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه، ومن خطه نقل الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى، ومنه نقلت:

قال رضي الله عنه:

الحمد لله رب العالمين.

فصل

هؤلاء الاتحادية القائلون بوحدة الوجود، وأنه الله تعالى، ينكرون أن يكون لله غير أو سوى بوجه من الوجوه، إما مطلقا على رأي ابن سبعين والتلمساني، وإما من جهة الوجود على رأي ابن عربي.

قال ابن سبعين في رده على الحشوية والمشبهة والمجسمة: «فما أجهل من يجهل ما يجب له عز وجل، وما أبعده عنه!

ليت شعري، كيف حال من يقول بمثل هذا القول إذا سمع الكلام على توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، ثم الكلام على وحدة الوجود، والقوة الشائعة، والحياة السارية في الموجودات، والمعنى المحيط، والوجود الحاضر مع كل موجود مشخص، ثم هو بالنظر إلى ذاته هو الحق، وغيره لا وجود له البتة إلا بما يرى له من فضله.

ثم لا يجرد القول في التوحيد الذي يفهم بالسكينة فقط، ولا تنفع فيه صناعة المنطق ولا العلوم الصناعية بالجملة، ويعود الأمر إلى فطرة ثانية [ ص: 84 ] بها يتوجه إلى المعنى الغريب، ويظهر لمن قام به الفضل أن العالم -بل مدلول الكليات الثلاثة، والكمية المنطقية، والوجود المعتد- لاحق كله، ويجد من نفسه أن الواحد المحض لا هو إلا هو; لأنه لا غير له بالجملة.

ويفعل مع هذا ويدرك -أعني الواصل المحقق- ويقوم الفضل به، حتى إنه يجد الانفعال، ويدرك النظام القديم، ويكون مع الموجودات على أي حال قدرت، حتى إنه ذلك بعينه، ويكون كأنه حاسة مدركة على العموم، لا يرجع عن شيء، ويكون المعلوم من حيث هو العالم، وغير ذلك مما لا يمكن ذكره».

قلت: قولهم مع أنه جامع لكل كفر وإشراك في العالم، ولفساد كل عقل ودين، فالقرآن قد أثبت لله غيرا في غير موضع، كقوله تعالى: قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم [الأنعام: 14]، وقوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [الأنعام: 114]، وقوله تعالى: قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء [الأنعام: 164]، وقوله تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون [الزمر: 64]. [ ص: 85 ]

فقد أمره الله تعالى أن ينكر عليهم ما أمروه به من عبادة غير الله. وعلى زعمهم ما ثم غير، ولا يتصور أن يعبد غير الله، كما لا يعبدون أيضا غيره.

ولذلك أنكر عليهم أن يتخذ غيره وليا أو ربا أو حكما; فإن هذا استفهام إنكار، إنكار نهي وذم لمن أمره بإيجاد ولي أو حكم أو رب غيره، ونفي لأن يتخذ غيره وليا أو حكما أو ربا.

فإذا لم يكن له غير بوجه من الوجوه امتنع هذا الكلام، وصار المعنى: «لا أتخذ وليا غير موجود، أو ربا غير موجود، أو حكما لا وجود له»، ومعلوم أن هذا لم يأمروه به، ولم يفعلوه، ولا يقصده أحد حتى يتنزه عنه ويتبرأ منه.

وكذلك قوله: هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض [فاطر: 3]، وقوله تعالى: ما لكم من إله غيره [الأعراف: 59].

ومن ذلك ما قص الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء: 75 – 77]، وقول المكبكبين في النار: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97 – 98]، وعلى زعمهم ما ثم إلا رب العالمين، وما ثم [ ص: 86 ] عدو له، ولا فرق بين المسوي والمسوى به.

وكذلك قوله تعالى: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم [الأعراف: 194]، وعندهم هي الله.

وقوله تعالى: أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [الأعراف: 191 – 192]، وعندهم الخالق هو المخلوق.

وكذلك قوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون إلى قوله أموات غير أحياء [النحل: 17 – 21]، وعندهم الجميع واحد.

وكذلك قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [النجم: 19 – 20] الآيات، وعندهم ليست اللات والعزى ومناة شيئا غير الله تعالى.

وكذلك قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [الإسراء: 56]، وعندهم ما ثم غيره حتى يدعى من دونه.

وقوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [سبأ: 22]، وعندهم ما ثم غير فيكون مدعوا من دونه.

وقوله تعالى: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [السجدة: 4]، وقوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [البقرة: 255]، وقوله تعالى: [ ص: 87 ] لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [النجم: 26]، وعندهم هو الشافع والمشفع، والمشفوع له وإليه.

والقرآن كله يكذب قولهم، ولهذا قال التلمساني: «القرآن كله شرك»، ليس فيه توحيد على أصلهم الكفري الفرعوني القرمطي.

وعلى قولهم ليس للعبد رب يدعوه، أو يفتقر إليه، أو يستعين به، أو يتوكل عليه; فإن الداعي هو المدعو، فلا فقر له إلى غيره.

وعلى أصل ابن عربي: وجود الرب مفتقر إلى ذات العبد، وذات العبد إلى وجود الرب، فكل منهما فقير إلى الآخر خليل له.

وعلى أصل البقية: لا فرق بين الوجود والثبوت أصلا; فيصيرون في مقام الاستغناء عن الله تعالى، والاستكبار عن عبادته ودعائه، مستشعرين أنهم هو.

فهم أكفر الخلق بالله، وأبعدهم عنه، معتقدين أنهم أعرف الخلق، وأعظم من سائر الأولياء، بل ومن الأنبياء!

فمن تدبر حال هؤلاء علم أنهم جمعوا بين غايتي التناقض; فإنهم أجهل [ ص: 88 ] الخلق وأكفرهم، معتقدين أنهم أعظم الخلق علما وإيمانا.

ومن هذا الوجه هم شر من فرعون; فإن فرعون لم يدع العلم والإيمان، وإنما أظهر الجحود. وفرعون شر منهم من وجه آخر; من حيث إنه أنكر الرب بالكلية، ودفع وجوده، ولم يعترف لا بعينه ولا باسمه ولا نعته، وهؤلاء معترفون بوجوده من حيث الجملة، وبأسمائه، لكن الذي يعينونه هو الذي كان فرعون يقر بوجوده.

فصاروا هم وفرعون بمنزلة رجلين:

أحدهما أنكر وجود النبوة.

والآخر اعترف بها، وجعلها نبوة مسيلمة الكذاب، أو جعلها الفلاحة أو التجارة.

فأتى ذلك المنكر يوافقه على وجود جنس مسيلمة الكذاب، ووجود الفلاحة والتجارة، لكن يقول: هذا ليس بنبوة. وهو صادق في نفيها عن هؤلاء، كاذب في نفيها مطلقا.

وأولئك يقولون: بل ثم نبوة، وهي هذه. وهم صادقون في إثباتها، كاذبون في تعيينها، وهم موافقون للأول في إثبات ما يثبته وفي نفي ما ينفيه، لكن [ ص: 89 ] النزاع بينه وبينهم في وصف ما ثبتت بهذه الصفة فقط، وفي ثبوتها من حيث الجملة.

آخره. ونقله من خط محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي الحنبلي رحمهم الله تعالى.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية