صفحة جزء
[ ص: 90 ] مسألة: في الأفعال الاختيارية من العباد [ ص: 92 ] بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة سئل عنها بالشام شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه، قبل دخوله مصر، وسمعت من لفظه في رمضان سنة أربع وتسعين وستمئة:

في الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله وبكسب العبد، فما حقيقة كسب العبد؟ وهل هو مؤثر في وجود الفعل، فيصير مشاركا للحق في خلق الفعل، فلا يكون العبد شريكا كاسبا، بل شريكا خالقا؟ وإن لم يكن مؤثرا في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه، وليس للعبد في التأثير شيء، فلم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان، والكفر والإيمان، حتى يستحق الغضب والرضوان؟ فكيف السلوك أيها الهداة ؟

فأجاب:

تلخيص الجواب: أن الكسب هو الفعل الذي يعود منه على فاعله نفع [ ص: 94 ] أو ضر، كما قال سبحانه: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت [البقرة: 286]; فبين سبحانه أن كسب النفس لها وعليها، والناس يقولون: «فلان كسب مالا أو حمدا أو شرفا»; لما أنه ينتفع بذلك.

ولما كان العباد يكملون بأفعالهم، ويصلحون بها; إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين - صح إثبات الكسب لهم، إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم، والله سبحانه وتعالى فعله وصنعه عن كماله وجلاله، فأفعاله عن أسمائه وصفاته، ومشتقة منها، كما قال: «أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي». والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله، فيحدث له اسم «العالم» «الكامل» بعد حدوث العلم والكمال فيه.

ومن هنا ضلت القدرية; حيث شبهوا أفعاله -سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا- بأفعال العباد، وكانوا هم المشبهة في الأفعال; فاعتقدوا أن ما حسن منهم حسن منه مطلقا، وما قبح منهم قبح منه مطلقا، بقدر عقلهم وعلمهم. [ ص: 95 ]

أولم يعلموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم، وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم؟! والله سبحانه متعال عن أن يلحقه ما لا يليق بسبحاته.

وأما قوله: «هل هو مؤثر في وجود الفعل أم غير مؤثر؟»، فالكلام في مقامين:

* أحدهما: أن هذا سؤال فاسد إن أخذ على ظاهره; لأن كسب العبد هو من فعله وصنعه، فكيف يقال: هل يؤثر كسبه في فعله؟ وهل يكون الشيء مؤثرا في نفسه؟!

وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشيء ومحاولته، فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود. وأظن السائل فهم هذا، وتشبث بقول من يقول: إن فعل العبد يحصل بخلق الله وكسب العبد.

وتحقيق الكلام أن يقال: فعل العبد خلق لله وكسب للعبد، إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه، أي بقصده وتأخيه، وكأنه قال: أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة. [ ص: 96 ]

وغير مستنكر عدم تجويد هذا السؤال; فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام. وحسن المسألة نصف العلم إذا كان السائل قد تصور المسؤول، وإنما يطلب إثبات الشيء أو نفيه، ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين.

* والمقام الثاني: في تحرير السؤال وجوابه.

وهو أن يقال: هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله؟ فإن كانت مؤثرة لزم الشرك، وإلا لزم الجبر.

والمقام مقام معروف، وقف فيه خلق من الفاحصين، والباحثين، والبصراء، والمكاشفين، وعامتهم فهموا صحيحا، لكن قل منهم من عبر فصيحا.

فنقول: التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير: الانفراد بالابتداع، والتوحيد بالاختراع.

فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذا القدر، فحاشا لله، لم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال.

وإن أريد بالتأثير نوع معاونة، إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه، كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات فهو أيضا باطل; [ ص: 97 ] لما به بطل التأثير في ذات الفعل; إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شرك دون شرك؟! وإن كان قائلو هذه المقالة ما نحوا إلا نحو الحق.

وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة فيه، خلق الله سبحانه الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق المسببات والمخلوقات بأواسط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا.

وقد قال الحكيم الخبير: فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [الأعراف: 57]، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [النمل: 90]، وقال سبحانه: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [التوبة: 14]; فبين أنه هو [ ص: 98 ] المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني، حتى أصلي عليه; فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة» ; فالله سبحانه هو الذي يجعل الرحمة والبركة، وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا التحرير فنقول: خلق سبحانه أعمال الأبدان بأعمال القلوب، ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار، ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني.

فإن القدرة هنا ليست عبارة إلا عما يكون الفعل به لا محالة، من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك، ولهذا وجب أن تكون مقارنة للفعل، وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان.

وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي، فذاك حديث آخر ليس هذا موضعه. [ ص: 99 ]

وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهر لك قول من قال: القدرة مع الفعل، ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلها تكليف ما لا يطاق، ومن منع ذلك، وتقف على أسرار المقالات.

وإذا أشكل عليك هذا البيان، فخذ مثلا من نفسك أنت، إذا كتبت بالقلم، وضربت بالعصا، ونجرت بالقدوم، هل يكون القلم شريكك أو يضاف إليه شيء من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن يلغى أثره، ويقطع خبره، ويجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل، وبه صنع؟

ولله المثل الأعلى، فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله، وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها، والله سبحانه خلق الأسباب ومسبباتها، وجعل خلق البعض شرطا وسببا في خلق غيره، وهو مع ذلك غني عن الاشتراط والتسبب ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلق بالأسباب وتعود إليها، والله عزيز حكيم.

وأما قوله: «إنا إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله سبحانه بالفعل، ولزم الجبر وطي بساط الأمر والنهي».

فنقول: إذا أردت بالتأثير المنفي التأثير على سبيل الانفراد في نفس الفعل أو في شيء من صفاته، فلقد قلت الحق، وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني.

وإن أردت به أن القدرة وجودها كعدمها، وأن الفعل لم يكن بها، ولم [ ص: 100 ] يصنع بها، فهذا باطل، كما تقدم بيانه.

وحينئذ لا يلزم الجبر، بل يبسط بساط الشرع، وينشر علم الأمر والنهي، ويكون لله الحجة البالغة.

فقد بان لك أن إطلاق القول بإثبات التأثير أو نفيه، دون الاستفصال وتبيين معنى التأثير، ركوب جهالات واعتقاد ضلالات، ولقد صدق القائل: «أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء».

وبان لك أن ارتباط الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة ارتباط المسببات بأسبابها، ويدخل في عموم ذلك جميع ما خلقه الله في السموات والأرض والدنيا والآخرة; فإن اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال دخول في الضلال، واعتقاد نفي أثرها وإلغاءه ركوب المحال، وإن كان لقدرة الإنسان شأن ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله.

فلعلك تقول بعد هذا البيان: أنا لا أفهم الأسباب، ولا أخرج عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين، وما أنت إن قلت هذا إلا مسبوق بخلق [ ص: 101 ] من الضلال، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [البقرة: 118]، وموقفك هذا مفرق طرق إما إلى الجنة وإما إلى النار.

فيعاد عليك البيان بأن لها تأثيرا من حيث هي سبب كتأثير القلم، وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع، وتضرب لك الأمثال، لعلك تفهم صورة الحال، ويتبين لك أن إثبات الأسباب مبتدعات هو الإشراك، وإثباتها أسبابا موصلات هو عين تحقيق التوحيد، عسى الله أن يقذف في قلبك نورا ترى به هذا البيان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [النور: 40].

فإن قلت: إثبات القدرة سببا نفي التأثير في الحقيقة; فما بال الفعل يضاف إلى العبد؟ وما باله يؤمر وينهى، ويثاب ويعاقب؟ وهل هذا إلا محض الجبر؟ ! وإذا كنت مشبها لقدرة الإنسان بقلم الكاتب وعصا الضارب، فهل رأيت القلم يثاب أو العصا تعاقب؟ !

فأقول لك الآن -إن شاء الله- ما يوجب هداك، بمعونة مولاك، وأن تطلع من أسرار القدر، على مثل خرت الإبر، فألق السمع وأنت شهيد، عسى الله أن يمدك بالتأييد.

اعلم أن العبد فاعل على الحقيقة، وله مشيئة ثابتة، وإرادة جازمة، وقوة [ ص: 102 ] صالحة.

وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية، كقوله: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله [التكوير: 28 – 29]، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله [الإنسان: 29 – 30]، فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة [المدثر: 55 – 56].

ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: يعملون ، يفعلون ، يؤمنون ، يكفرون ، يتفكرون ، يتذكرون ، يجعلون ، يتقون .

وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق، فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل.

والجبر المذموم الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا عن الحي من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح، وحركات الأبواب بإطباق الأيدي، ومثله في [ ص: 103 ] الأناسي: حركة المحموم والمفلوج والمرتعش; فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهته بين قيام الإنسان وقعوده، وصلاته وجهاده، وزناه وسرقته، وبين ارتعاش المفلوج وانتفاض المحموم، ويعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار، وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار.

والمحكي عن جهم وشيعته الجبرية أنهم زعموا أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد. وهو قول ظاهر الفساد.

ولما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال إلى: اختياري، واضطراري، واختص المختار منها باعتقاب الأمر والنهي عليه، ولم يجئ في الشرائع ولا في كلام حكيم أمر للأعمى بنقط المصحف، أو للمقعد بالاشتداد، أو للمحموم بالسكون، وشبه ذلك، وإن اختلفوا في تجويزه عقلا أو سمعا، فإنها منعت وقوعه ووروده بإجماع أولي العقل من جميع الأصناف.

فإن قيل: هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي، أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله؟ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل، فهل يتأتى ترك الفعل معه؟ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير [ ص: 104 ] توسط الإرادة من العبد، وهذا جبر بتوسط الإرادة!

فنقول: الجبر المنفي هو الأول، كما فسرناه.

وأما إثبات القسم الثاني، فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار، وأولي الألباب والأبصار، لكن لا يطلق عليه اسم «الجبر» خشية الالتباس بالأمر الأول، وفرارا من تبادر الأفهام إليه، وربما سمي جبرا إذا أمن اللبس وعلم القصد.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الدعاء المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها».

فبين أنه سبحانه جبر القلوب على ما فطرها عليه من شقاوة أو [ ص: 105 ] سعادة، يعني الفطرة الثانية، ليست الفطرة الأولى، وبكلا الفطرتين فسر قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»، وتفسيره بالأولى واضح.

وقال محمد بن كعب القرظي -وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم، وربما فضل على أكثرهم- في قوله: الجبار، قال: «جبر العباد على ما أراد»، وروي ذلك عن غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية