صفحة جزء
* الأصل الثالث: أن تعرف أن الثبات على العلم والإيمان عند وقوع الفتن والشبهات هو من أعظم النعم؛ فإن من الناس من يؤمن في العافية، ثم إذا فتن ارتد، فينبغي أن يعلم أن ثباته على الإيمان عند الفتنة والشبهة من أعظم النعم.

قال الله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم إلى قوله: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران: 144 – 145]، وهم الذين يثبتون على الإيمان إذا انقلب على عقبه من ينقلب عند قتل الرسل وموتهم، قال تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله إلى قوله: الشاكرين [آل عمران: 145].

فذكر الشاكرين في هذه الآية والتي قبلها، ثم قال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين آل [عمران: 146]، [ ص: 400 ] فذكر الصابرين.

ثم قال: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا إلى قوله: والله يحب المحسنين [آل عمران: 147 – 148].

والربيون: الألوف الكثيرة.

وفي الآية قولان:

* قيل: وكأين من نبي قتل هو، وكان معه ربيون كثير.

* وقيل: وكأين من نبي قتل، وقتل مع النبي ربيون كثير.

والقول الأول يناسب كون النبي مقتولا؛ لقوله: أفإن مات أو قتل .

والثاني يدل عليه ظاهر اللفظ؛ فإن المشهور لو أريد الأول لما قيل: معه ربيون كثير .

فأنكر على من انقلب على عقبيه عند قتل النبي أو موته.

فالله تعالى ذكر الشاكرين الذين يثبتون على الإيمان عند الفتن العظيمة، مثل قتل النبي وموته؛ فإن هذا من أعظم الفتن، ولهذا لما قيل يوم أحد: «قتل [ ص: 401 ] محمد» انهزم أكثر الناس، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتد أكثر الناس.

وفي الحديث: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجال».

فموت النبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الفتن للناس؛ فإنه ارتد عامة الناس إلا المدينة، ومكة، والطائف.

* أما المدينة، فهي دار المهاجرين والأنصار، وهم وإن لم يرتدوا لكن ضعفت قلوبهم، وتغيرت أحوالهم، وجبن أكثرهم عن قتال المرتدين، وشكوا في قتال مانعي الزكاة، حتى قام الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 402 ] فعلمهم ما جهلوا، وذكرهم ما نسوا، وقوى قلوبهم، وأمرهم بالجهاد، فثبت الله عز وجل به الإيمان، حتى أدخل أهل الردة من الباب الذي خرجوا منه.

* وأما أهل مكة، فأراد من أراد منهم أن يرتد، فقام فيهم سهيل بن عمرو خطيبا بنحو من خطبة أبي بكر الصديق بالمدينة، قال: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، ثم تلا: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .

والشاكرون هو وأتباعه الذين ثبتوا على الإيمان، المجاهدون عليه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية [المائدة: 54]، وهؤلاء هم الذين قاتل بهم الصديق المرتدين من الكفار، كأهل اليمن، مثل أبي موسى الأشعري وقومه الأشعريين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «هم مني وأنا منهم».

* وأما أهل الطائف، فأراد من أراد منهم الردة، فقام فيهم عثمان بن أبي العاص -وهو إمامهم وأميرهم- فنهاهم عن ذلك، فقال: «كنتم آخر الناس إسلاما، وتكونون أولهم ردة؟! اثبتوا، فإن أقام الله الإسلام كنتم على دينكم، [ ص: 403 ] وإلا لم تكونوا من أعداء الإسلام»، أو نحو هذا الكلام.

وبهذا ظهر لك بعض ما وصف الله به نوحا وإبراهيم من الشكر.

قال تعالى: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا [الإسراء: 3]، مع أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى التوحيد، ويصبر منهم على الأذى، فكان من أعظم الناس شكرا على نعمة الله، لا سيما نعمة الإيمان.

وكذلك الخليل قال تعالى فيه: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه الآية [النحل: 120 – 121].

وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون [الحديد: 26].

التالي السابق


الخدمات العلمية