صفحة جزء
وأما اسم "القطب" فالقطب مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، وكذلك قطب الفلك وغير ذلك من الأجسام الدائرة. فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور هو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وتبليغهم أمره ونهيه ووعده ووعيده، وكل من دار عليه أمر من الأمور فهو قطبه، فإمام الصلاة قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأمير الحرب قطب هذه الإمارة، وأئمة الهدى -كالشيوخ الذين يقتدى بهم في دين الله- هم أقطاب ما دار عليهم من ذلك. ومن ينصر المسلمون ويرزقون [ ص: 71 ] بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطاب ما دار عليهم.

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على مال زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والمملوك راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته".

وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في دينها ودنياها ما لم يدر على أحد مثله، ثم بعدهم تفرق الأمر، فصار الملوك والأمراء يقومون ببعض الأمر، وأهل العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء من أولي الأمر، وهؤلاء من أولي [الأمر] . وقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم يتناول الطائفتين: العلماء والأمراء. إذا أمروا بطاعة الله، فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد جاء في الأثر: "صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء [ ص: 72 ] والأمراء" .

وقد يكون في الزمان رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة وأربعة، ولكن ليس في الوجود رجل هو أفضل أهل الأرض، وفيه ما يقتضي أنه بوجوده يحصل للناس الرزق، وينتصرون على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم معرضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضل أهل الأرض، وقد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إن الله أغرق أهل الأرض إلا من آمن به. وكذلك غيره من الرسل، كهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم.

نعم قد يحصل بدعائه وعبادته من الخير ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" . وقد قال تعالى لنبيه: وما كان الله ليعذبهم [ ص: 73 ] وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وقال تعالى: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . يقول: لولا أن تطأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلطكم على أهل مكة، ولو تميز المؤمنون من الكفار لعذبنا الكفار عذابا أليما. فهذا ونحوه مما يوافق دين المسلمين.

وأما ما يدعيه قوم في القطب والمرتبة التي يسمونها "القطبية" و"القطبانية" فمن الغلو الذي يشبه غلو النصارى والرافضة، كقول أحدهم: القطب الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وأن الله إذا أنزل إلى أهل الأرض خيرا من هدى ورزق ونصر فإنه ينزله عليه، ثم منه يفيض إلى سائر الخلق.

وقد يدعي أحدهم أنه منه مدد ملائكة السماوات وطير الهواء وحيتان الماء، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويصرف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه المقالات التي تجعل للقطب نوعا من الإلهية والربوبية التي لم تحصل للأنبياء.

وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى [ ص: 74 ] من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما تقدم.

فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه بالإفك والشرك الذي ذم الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ، وقول الخليل: أإفكا آلهة دون الله تريدون ، وفي قوله تعالى: ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون .

وما ينزل الله على قلوب عباده من الهدى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم إياه من الرزق، ومعلوم أن ما ينزله من المطر وينبته من النبات لم ينزله قبل ذلك على شخص من البشر، وكذلك ما يغذي به عباده من الطعام والشراب والهواء لم يتغذ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... من الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه [ ص: 75 ] يدعوهم ويبين لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد، بل ذلك لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ، وقال تعالى: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل أي من يضله الله لا يهدى، كما قال: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وقال: *ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء . ولهذا أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم ، وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يقدر عليها إلا الله.

وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".

وقد
ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت [ ص: 76 ] منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن مثل ما أرسله الله به كالماء، والماء مختلف باختلاف المحل الذي يصل إليه، فهكذا ما بعث الله به رسوله يختلف أثره باختلاف القلوب التي يصل إليها، فكما أن الزرع يحصل من الماء ومن التربة الطيبة، فهكذا الهدى، يحصل من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك.

فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلمه ويحرص على هداه، لا يقدر على جعل الضال مهتديا، فكيف يجعل شخص دون الرسل بكثير يهدي الخلق كلهم، لا سمعوا كلامه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلا من جنس قول الرافضة في المنتظر الذي لم يسمع له أحد بحس ولا بخبر، ولا وقع له على عين ولا أثر.

وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسان من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقوم بغيره إذا علمه وخاطبه، مع بقاء الهدى والعلم في قلب الأول. ولهذا يشبه [ ص: 77 ] العلم بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من المصباح يحدث الله له نارا في ذبالة مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يعطي الله رجلا من العلم والهدى نظير ما أعطى غيره بدون تعليم الأول وخطابه.

فهذا الغوث القطب إذا لم يعلم الناس ويخاطبهم كان ما جعله الله في قلوب الناس من الهدى والعلم نظير ما في قلبه إذا قدر من ..، ولكن لم يكن سببا في ذلك، فضلا عن أن يكون من قلبه فاض إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يره الناس ولا عرفوا ما قال ولا فعل، فإن الإنسان قد يرى كيان الرجل وآثاره، أو يرى وجهه وعمله، فيحصل له بذلك من الهدى والعلم ما يسره الله له، أما بدون سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه منه هدى؟ فضلا عن أن يكون منه يحصل هدى جميع الخلق.

فليتدبر اللبيب هذا يتبين له أن ما وصفوا به قطبهم وغوثهم أمر لا يقدر عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلمو الكتاتيب ومقرئو القرآن ومعلموهم آداب الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا حقيقة له في الأعيان، كما قدر الرافضة وعبدة الصلبان. وإذا كان هذا في الهدى الذي يحصل [ ص: 78 ] بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل، أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يحصل بالدعاء المستجاب للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يحصل بدون ذلك، كما ذكرناه أولا في قوله: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم".

وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام الوجود لا يختص بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عاما للخلق. أما وهذا أمر لم يحصل للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونهم؟

ولا ريب أن هؤلاء الضالين الغلاة من الذين جعلوا بين الله وبين خلقه وسائط جعلوهم له أندادا وشركاء وشفعاء، كما فعلته النصارى بالمسيح وأمه والأحبار والرهبان. قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون . ولهذا أمر نبيه أن يقول: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه أثبت وساطة الرسل [ ص: 79 ] بين الله وبين خلقه، فيبلغونهم أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده، ويقطعون وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يعبد إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، فإنه لا رب غيره، ولا خالق غيره، ولا إله سواه. وكل ما خلقه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يشركه ويعينه، وله مانع يحجبه ويعوقه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غير الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جعل سببا كإحراق النار فلابد له من معين، وهو قبول المحل، وقد يحصل مانع كما حصل في نار إبراهيم، وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على قبولهم.

وقد يكون القلب مائلا للهدى، لكن يحصل له مانع يعارضه، كما قال: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون . وقال تعالى: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون .

وقال تعالى: وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر [ ص: 80 ] بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . ونظائر هذا كثير.

فمن عدل عن سبيل المرسلين، فلم يتابعهم ويطع أمرهم ونهيهم قطع ما بينه وبين الله، فصار مشركا بالله يدعو غير الله، إما الملائكة وإما الكواكب وإما الجن، وإما البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صور هؤلاء وتماثيلهم، وإما ما يظنه موجودا من هؤلاء. ويتخيل في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا حقيقة له، ويثبت الوسائط في خلق الله وربوبيته، ويجعل له شركاء وشفعاء بغير إذنه، وهو سبحانه كما قال: ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، \ وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له .

التالي السابق


الخدمات العلمية