صفحة جزء
[ ص: 105 ] فصل

وأما قول القائل: "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة"، فهذا من أعظم البهتان من وجوه:

أحدها: أن هذا الغوث المدعى ليس بأعظم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادة الخلائق، يجيب الله من دعائهم ما لا يجيب من دعاء غيرهم، وهم الذين تطلب منهم الشفاعة يوم القيامة، حتى ينتهى إلى خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع". قال: "فأرفع رأسي فأقول أمتي أمتي، فيحد لي حدا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله . وأحاديث الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها.

فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يبتدئ [ ص: 106 ] بالشفاعة بل بالسجود والثناء، حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع.

أما في الدنيا ففي الصحيح عنه قال: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها".

وفي الصحيح أنه قال لعمه: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى . وقد صلى على عبد الله بن أبي ودعا له، حتى أنزل الله: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره . وقال له: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم . [ ص: 107 ]

وثانيه في الفضيلة الخليل، فإنه قد ثبت في الصحيح أنه خير البرية، وهو أفضل الرسل بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد استغفر لأبيه بقوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ، ومع هذا فآزر في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له .

وأيضا فقد قال تعالى: فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .

وأيضا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مقامات معروفة، ففي يوم بدر كان يناشد ربه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة، وفي الاستسقاء اجتهد في الدعاء، تارة في المسجد وتارة في [ ص: 108 ] الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزل إلا بعد اجتهادهم في الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بصره حتى تدفع النوازل؟

ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلا الله، واتصل بعضها مدة، فأين كان هذا الغوث؟! وحدثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصار- وكان من الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أخذت فيه بغداد، كشف له عن ذلك والسيف يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب؟ أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

التالي السابق


الخدمات العلمية