صفحة جزء
[ ص: 41 ] وقد ظن طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادهم بذلك أن لا تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورد عليهم عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، وبينوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الإسناد وحده مما لا يعتمد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفه ، ثم ذكروا عدم دلالته على ما طلبه. ولكن قد روي هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائم باق لا ينقص عن كماله فضلا عن أن يفنى أو يعدم، كقوله تعالى: أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . وفيه قراءتان : أكثر القراء يقرءون "لتزول"، فيدل على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.

وقرأ بعضهم "لتزول" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرهم تزول، هذا تقدير البصريين. والكوفيون يقدرون: ما كان مكرهم إلا تزول. وكلا القراءتين لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .

وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: [ ص: 42 ] إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ومنه قول لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل



وقد قال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد:

"صدقت". ثم قال:


وكل نعيم لا محالة زائل



فقال له: "كذبت، إن نعيم الجنة لا يزول" .

وليس المراد بقوله ما لكم من زوال وبقوله تعالى لتزول منه الجبال و يمسك السماوات والأرض أن تزولا هو الحركة، فإنهم كانوا يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" يستعمل لازما ويستعمل ناقصة من أخوات "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول زوالا، كما في قوله تعالى أن تزولا و ما لكم من زوال و وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . ومنه: زالت الشمس تزول زوالا. وليس المراد بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركة في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب.

ولا يقال إنها زالت إلا إذا انحطت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على رءوس الناس كان غاية ارتفاعها، وهو قبل الزوال، ثم إذا [ ص: 43 ] انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قيل: زالت، ويقال لها قبل الزوال: قد قام قائم الظهيرة، فيعبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يلفظ في الانحطاط بلفظ الزوال، كما يعبر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوت الشمس، وعند الزوال بالميل فيقال مالت الشمس; فكأن لفظ الزوال يدل على النقص بعد الكمال، والانخفاض بعد الارتفاع.

والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوام ما هم فيه من الملك والمال، وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سبقت ناقته العضباء وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حقا على الله أن لا يرفع شيء من الدنيا إلا وضعه" . فكلما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، وذلك من زواله.

والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يسمى باطلا، فالموت حق والحياة باطل، فإن الباطل ضد الحق، والحق يقال على الموجود، فيكون الباطل هو المعدوم. ويقال أيضا على ما ينفع وينفى نفعه، فيكون الباطل اسما لما لا ينفع، أو لما لا يدوم نفعه.

ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل لهو يلهو به الرجل باطل منه إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحق". رواه أبو داود وغيره . [ ص: 44 ]

ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الرجل لا يحب الباطل" ، وهو ما لا ينفع النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكل ما لا ينفع في الآخرة فهو باطل، وإن كان لذة حاضرة، فإنها تزول وتعد بلا نفع يبقى، فهي باطل بهذا الاعتبار.

وقال الله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا يضر; ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة في الحياة الدنيا، فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا. ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل


قال الله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ، وقال تعالى: مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء إلى قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . والثابت ضد الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل ما لا ينفع في الآخرة، والورع مشروع في كل ما قد يضر في [ ص: 45 ] الآخرة. فالورع عن المحرمات واجب، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام، كما في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب".

فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من ترك الشبهات التي لا يعلم كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية