صفحة جزء
[ ص: 176 ]

فإن قال المعتزلي: أنا أتأول الإرادة والكلام، وأجعل كلامه ما خلقه في غيره، وإرادته ما خلقه في المفعولات والأصوات، أو عرضا خلقه قائما بنفسه.

قيل له: فتأول أسماءه الحسنى، وهو الحي العليم القدير، ولا تثبت له حقائق هذه الأسماء كما يفعل القرمطي، قال: لأن ثبوت هذه الأسماء يقتضي هذه المشابهة بينه وبين خلقه، ويقتضي أنه جسم، إذ لا يسمى بهذه الأسماء إلا جسم.

فإذا قال: أنا أثبت هذه الأسماء له مع الفرق بين المسمى والمسمى.

قيل له: فكذلك أثبت الصفات، وفرق بين الموصوف والموصوف.

فإن قال: الصفات تقتضي التجسيم.

قيل له: والأسماء تقتضي التجسيم.

فإن قال: التجسيم إنما يلزم إذا قلت: هو حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة، وأنا أقول: حي بلا حياة عليم بلا عليم.

قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن التجسيم الذي تزعمه يلزم في هذا كما يلزم في هذا.

الثاني: أن إثباتك حيا بلا حياة عليما بلا علم قديرا بلا قدرة مخالف لصريح العقل أكثر من مخالفة ما فررت منه.

الثالث: أن خصومك من النفاة [و] المثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو [ ص: 177 ] التجسيم الذي نفيته ليس بمنتف، والنفاة القرامطة يقولون: التجسيم في إثبات الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات.

فإن قال المتفلسف: أنا أتأول هذا كله، وأتأول ما ورد في معاد الأبدان.

قيل له: فتأول ما ورد في معاد الروح ونعيمها، وما ورد في إثبات واجب الوجود وعنايته وإبداعه وعلمه الكلي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيته أصرح من الخطاب الوارد فيما أثبته.

فإن قال: ما نفيته يستلزم تركيب واجب الوجود.

قيل له: وكذلك ما أثبته، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل وأمثال ذلك معان متميزة في العقل كتميز ما أثبتته الصفاتية.

وقيل له: فتأول العبادات كما تأولها القرمطي.

فإن قال: العبادات قد علم بالاضطرار أن الرسول أوجبها، أو ليس فيها ما ينافي العقل.

قيل له: منازعون من النفاة والمثبتة يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم يقولون: إن معاد الأبدان قد علم بالاضطرار أن الرسول قد أخبر به، والصفاتية يقولون: إن إثبات الصفات مما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به، ويقولون لك: ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة لما أثبته من العلميات .

والقرامطة ينازعونك فيما أثبته حتى في النفس، فيقولون: لا يقال هو [ ص: 178 ] لا موجود ولا معدوم، لأن في هذا تشبيها له بالموجودات والمعدومات.

فإن قال : هذا خروج عن النقيضين، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالف لما علم بالاضطرار من السمع.

قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لا بد أن يجمعوا بين النقيضين أو يسلبوا النقيضين كالقرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا محايث ولا داخل ولا خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرط إطلاقه لا يوجد في الخارج بل في الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جعل المطلق بشرط الإطلاق يثبت في الخارج جمع بين النقيضين.

وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هؤلاء أهل التأويلات المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحد منهم قانون مستقيم في التأويل، بل يتناقضون.

فيقال لهم: إذا تأولتم هذا فتأولوا هذا، أو لا تتأولوا شيئا.

فإن قالوا: ما دل العقل على إثباته لم نتأوله كالإرادة، بخلاف ما لم يدل على إثباته كالغضب.

كان الجواب من وجوه:

أحدها أن يقال: عدم الدليل ليس دليلا على العدم، فهب أنكم لم تعلموا بالعقل ثبوت صفة أخرى، فمن أين لكم نفيها بلا دليل [ ص: 179 ] والسمع قد دل عليها؟!

الثاني أن يقال: فهذا عزل للرسول عن الإخبار بصفات مرسله، فإنكم لم تثبتوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تثبته عقولكم نفيتموه، فبقي كلام الرسول عديم الفائدة في باب أسماء الله وصفاته.

الثالث: أن يبين لهم أن العقل يدل على ما نفيتموه نظير دلالته على ما أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدل على الرحمة، كما أن ما فيه من التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدل على الغضب، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

فإن قال: إنما نتأول ما علم نفيه بدليل قطعي من العقل أو النقل.

قيل له: ونحن نسلم لك أن ما علم نفيه بصريح المعقول أو صحيح المنقول فإنه يجب نفيه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوص يدل على ما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول قول غير مقبول.

الجواب الخامس

أن يقال: التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، للمثبتة فيه ثلاثة مسالك:

أحدها: أن ينفوه مطلقا، ويقولوا: لا حاجة إليه، وتمام ذلك بأن يثبتوا تنزه القرآن والحديث عن الدلالة على المعاني الفاسدة.

المسلك الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليل شرعي، مثل أن يكون نفي ذلك المعنى قد بينه الشارع في موضع آخر، فيكون هو [ ص: 180 ] قد بين كلامه بكلامه، فلا يكون كلام الله ورسوله محتاجا في البيان إلى ما يحدثه المحدثون.

المسلك الثالث: أن يسلموا أن كل تأويل قام عليه دليل سمعي أو عقلي فإنه يجب قبوله، لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجة إلى التأويل، ويثبتون أن ذلك لم يخالف دليلا قطعيا، لا عقليا ولا سمعيا، بل يبين أن العقل الصريح يقرر ما أثبته السمع، وأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح أصلا، كما يبين أن ما دل عليه القرآن من أن الله مباين لمخلوقاته قد دل عليه العقل، وأن العقل يثبت مباينته للمخلوقات، والسمع زاد على ذلك وأثبت الاستواء على العرش، وذلك لا يعلم بالعقل، فالسمع أثبت ما علم العقل وزاد عليه وفضله، لأن الرسل بعثت بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. والله أعلم.

(تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلواته على سيدنا محمد خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا، بتاريخ خامس شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمئة) .

التالي السابق


الخدمات العلمية