صفحة جزء
وقوله: " مغفرة من عندك لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن الناس من يفرق بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يفرق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرق فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرة من عندك لا تصلها بأسباب، لا من عزائم المغفرة التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يوجب المغفرة لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تهبها لي، وتجود بها علي بلا عمل يقتضي تلك المغفرة.

ومن المعلوم أن الله تعالى قد يغفر الذنوب بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فسر به قوله: "من عندك" كان أحسن وأشبه مما ذكر من الاختصاص.

وأما قوله: "والأشياء كلها من عنده"، فيقال: إن للأشياء وجهين: منها ما جعل سببا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابة لسؤاله وإحسانا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين، [ ص: 68 ] ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطني من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من عندك".

والله تعالى وإن كان الخلق لا يوجبون عليه شيئا، فهو قد كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، وأوجب بوعده ما يجب لمن وعده إياه، فهذا قد يصير واجبا بحكم إيجابه ووعده، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمال لفظ "من عندك" في هذا هو شبيه باستعماله فيما يطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات.

وأيضا فقوله "من عندك" يراد به أن يكون مغفرة تجود بها أنت علي، لا تحوجني فيها إلى خلقك، ولا يحتاج إلى أحد يشفع في أو يستغفر لي، واستعمال لفظة "من عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الله تاب عليه من عنده.

وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فلما كان الرزق لم يأت به بشر ولم [ ص: 69 ] يسع فيه السعي المعتاد قالت: هو من عند الله . فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلام الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولا محتملا، وقد قال عمر: احمل كلام أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، والله أعلم. [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية