صفحة جزء
وأيضا فمن جعل غيره عالما قادرا كان أولى أن يكون عالما قادرا، قال تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون إلى قوله: قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون . فقوله: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فيه قراءتان مشهورتان : الإدغام "يهدي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، وأدغمت في الدال بعد أن قلبت دالا، وألقيت حركتها على الهاء. فأكثر القراء يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف "يهدي"، ثم قيل: إنه فعل متعد، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي يهتدي، وحكوا "هدى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازما ومتعديا. وهذا أصح، والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي [ ص: 139 ] بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا يهتدي إلا أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبع إلا الله وحده، الذي يهدي إلى الحق.

فكل هدى في العالم وعلم فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديا له ومعلما.

وقوله: أمن لا يهدي إلا أن يهدى يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقا، وأنه لا يهتدي بحال إلا أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات.

وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبود فهو متبوع، يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدا له.

ولهذا يجزون يوم القيامة بنظير أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل، كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي مناد ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر"، وذكر إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربهم، وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى لهم، ويخرون له سجدا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد . وفي مسلم [من] حديث جابر ، [ ص: 140 ] وهو أيضا معروف من حديث أبي موسى ، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها.

آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده.

التالي السابق


الخدمات العلمية