1. الرئيسية
  2. جامع المسائل
  3. مسألة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أتدري ما حق الله على العباد
صفحة جزء
[ ص: 149 ]

[ ص: 150 ] مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ:

"أتدري ما حق الله على العباد؟ " [ ص: 151 ] مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " ، وفي قوله: وما حق العباد على الله"، فهل حقهم واجب عليه كما حقه واجب عليهم على ظاهر اللفظ أم مجاز؟.

أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أيده الله:

الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة ونحوها للناس فيها ثلاثة أقوال، طرفان ووسط :

طائفة تقول: إن الله يجب عليه أشياء، ويحرم عليه أشياء، بالقياس على المخلوقين، وإن العباد بقياس عقولهم يوجبون عليه ويحرمون عليه، كما يجب على العباد ويحرم عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يقدر على أن يفعل غير ما فعل، وإن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه الله، وإنه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم.

والقول الثاني: قول من يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يوجب هو على نفسه شيئا، ولا يحرم على نفسه شيئا، ولا ينزه عن فعل من الأفعال، ويجوز أن يقع منه كل ما هو مقدور، فلا يقدر أن يظلم أحدا، بل الظلم ممتنع لذاته، وإنه ليس في أسمائه الحسنى وصفاته [ ص: 152 ] العلا ما يدل على تنزهه عن أفعال مذمومة، ولا عن اتخاذه ولدا، ولا عن أمره بأن يشرك به. وخالفوا قوله: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ، وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا ينزه قط عن فعل من الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإن كان أمرا بالشرك والكذب والظلم، وإن كان نهيا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ما يفعله وما لا يفعله إلا بما جرت به العادة، مع أن العادات يمكن خرقها، أو أخبار الأنبياء، مع أن خبرهم عند طائفة منهم لا يفيد اليقين، وخبرهم بالوعد والوعيد عند أكثرهم لا يعلم منه شيء. ويقولون: إنه يخلق ما يخلق لا لسبب ولا لحكمة. وهذا قول الجهمية الجبرية ومن اتبعهم من المتأخرين.

والطائفتان تقولان: إن القادر يرجح أحد المتماثلين لا لمرجح، لكن هؤلاء يجعلون فعله كله كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من القولين طوائف من أعيان الناس، وإن كان القولان ضعيفين .

والقول الثالث ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانه عليم حكيم رحيم، وإنه كتب على نفسه الرحمة كما أخبر في كتابه ، وحرم على نفسه الظلم، كما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي عن أبي ذر الغفاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي، إني [ ص: 153 ] حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". وإنه أوجب على نفسه نصر المؤمنين، كما قال تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين . فليس للمخلوق بنفسه على الله حق، ولا يقاس الخالق بالمخلوق فيما يفعله، كما لا يقاس بالمخلوق في صفاته وذاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولكن هو كتب على نفسه الرحمة، [وحرم على نفسه] الظلم كما تقدم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبر بما أخبر به من ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين، وأنه صادق لا يخلف الميعاد، فاتفقوا على ثبوت الخبر، وإنما النزاع في كتابته على نفسه وتحريمه على نفسه، لكن النصوص دلت على ذلك.

وكذلك حلفه "ليفعلن" كقوله تعالى: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقوله: ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين . ومثل هذا القسم ليس خبرا محضا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد.

ومن قال بالقول الثاني يتأول كتابته على نفسه الرحمة وتحريمه على نفسه الظلم، بأن المراد إخباره بوقوع ذلك وعدم وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما يمتنع أن يكون مقدورا، وما يمتنع أن يكون مقدورا لا يحرم، وقد علم الناس أنه لا يكون، فلا فائدة بالإخبار أنه لا يكون. [ ص: 154 ]

وأيضا فإنه ذكر ذلك مقدمة لنهيه عباده عن الظلم بقوله: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا".

فلو أراد به ما لا يكون مقدورا كان المناسب لهذا أن يحرم على عباده ما لا يقدرون عليه.

وهذا يناسب قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فيكون قد حرم عليهم ما يفعلونه من ظلم بعضهم بعضا، ولا حرم عليهم الشرك الذي هو ظلم عظيم، ولا حرم عليهم ظلم أنفسهم.

وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرمه على نفسه ما لا يكون مقدورا، وبالظلم الذي حرمه على عباده ما يقدرون عليه، لم يكن ذكر هذا مناسبا لذكر هذا، وهو قد قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول ما لا يقدر عليه، لقيل: لا معنى لتحريمه هذا على نفسه.

والمناسب إذا لم يحرم إلا ما يكون مقدورا لهم، وإلا فالمعنى على قول هؤلاء: حرمت على نفسي إذ أجعل الشيء موجودا معدوما، وأجعل الجسم متحركا ساكنا، وأجعل المحدث قديما والقديم محدثا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست شيئا باتفاق العقلاء، ولا يتصور العقل وجودها في الخارج، وحرم عليهم ما يقدرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليقيم الحجة على خلقه بقوله: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرما عليكم، لأنه سبحانه على كل شيء قدير، ورب كل شيء وخالقه، ولا يتصرف إلا في ملكه، لا في ذلك غيره، وليس فوقه آمر يأمره، فإذا كان مع كمال قدرته وعزته ووحدانيته قد حرم الظلم على نفسه، فكيف بالمخلوق الذي فوقه آمر يأمره، ومجاز يجازيه، وقد يتعدى [ ص: 155 ] فيتصرف فيما لا يملكه.

وأما كونه يقول: حرمت على نفسي ما ليس مقدورا لي، كالجمع بين الضدين ونحو هذا، ولا يقدر أحد على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره - فهذا مما يعلم يقينا أن الرسول لم يقصد هذا، بل تحريم ما هو مقدور، كما قصد تحريم الظلم الذي يقدرون عليه.

وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم ربك أحدا ، ويقول لعبده إذا حاسبه يوم القيامة: لا ظلم عليك، فلا ينقص أحدا من حسناته شيئا، ولا يحمل عليه سيئات غيره، كما قال تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما . قال غير واحد من السلف: الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم أن يهضم من حسناته . فهذا مما حرمه على نفسه وهو قادر عليه، لكنه منزه قدوس سلام، لا يجوز أن يظلم أحدا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبة ولا ولدا، بل هو حكيم عليم رحيم، لا يفعل إلا بموجب رحمته وحكمته وعدله. وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان، ومالم يشأ لم يكن.

فكل واحد من قول القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطل، والصواب فيما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. [ ص: 156 ]

وهذه المسألة فرع على هذا الأصل، والكلام على هذا مبسوط في مواضع غير هذا، وهذا مقدار ما احتملته الورقة من الجواب.

فعلى هذا فقوله: "أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه، لا يشركوا به شيئا"، هو حق استحقه بنفسه على عباده. وقوله: "أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم"، هو حق أحقه على نفسه لعباده، كما قال تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، فهو أحقه بنفسه على نفسه، لا لأن العباد بأنفسهم يستحقون عليه شيئا، ولا يقاس على خلقه فيما يستحقه المخلوق على المخلوق، فإنه خلق عباده، ولم يكونوا قبل وجودهم شيئا، بل عدما محضا لا يستحقون شيئا، ثم لما خلقهم فكل ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون موجبا على الرب عز وجل محرما عليه، وهذا هذا. والله أعلم.

(هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى) .

التالي السابق


الخدمات العلمية