صفحة جزء
فصل

الذي يكره من شرى الأرض الخراجية إنما كان لأن المشتري يشتريها فيدفع الخراج عنها، وذلك إسقاط لحق المسلمين، كما كانوا أحيانا يقطعون بعضها لبعض المجاهدين إقطاع تمليك لا إقطاع استغلال، كإقطاع الموات، فهذا الابتياع والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة.

والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعة دائمة للمسلمين، فإذا قطعت منفعته عن المسلمين صار ظلما لهم، بمنزلة من غصب طريق المسلمين وبنى في منى ونحوها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثها، فإن الإرث [ ص: 369 ] مجمع عليه أن الوارث أحق بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات.

فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شبه من البيع دون الإجارة، ويشبه في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقا ولم يستأجرها، وأما ملك هذه المنفعة مؤبدة.

وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضا، لأنها للمسلمين إذ فتحت عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كرى الأرض يساوي أضعاف الخراج، ولكان على المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل والأعناب وغيرها، كمن استأجر أرضا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعة كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفع للمسلمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون وملاك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلا فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لرب الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة. [ ص: 370 ]

وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا، ولا بيع يكون بثمن مؤبد إلى يوم القيامة، فالتخريج أصل دلت عليه السنة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها".

واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها.

وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه في ذلك عوضا، لم يكن في ذلك ضرر أصلا، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفا، بل مستحق أهل الوقف باق كما كان. وبيع الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول، بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتك هذه بما علي من الخراج وبالزيادة التي تعجلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبة مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سميت بيعا أو إجازة. ولهذا جوز أحمد -رحمه الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنا وأجرة، وما كان ثمنا كان مثمنا، فهذا ينبغي تأمله. [ ص: 371 ]

يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصغار، ولما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة، فهو مانع آخر غير كونه وقفا يختلف باختلاف المصالح والأوقات، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على خيبر لقلة المسلمين، فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج، والكفار يستغلون الأرض بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمن عمر قليلا وأهل الذمة كثيرا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم على خيبر، ثم عمرها المسلمون لما كثر المسلمون وتضرروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي ويقوم مقامه فيها، فإن كان المؤدى أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنا فهو أحق باشترائها، وإن كان عوضا ثالثا فهو أحق به أيضا.

ومتى كثر المسلمون لم يبق صغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده مؤديا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره؟ [ ص: 372 ] والمسلم لا صغار عليه بحال، فلو كان المانع كونها صغارا لم يجامع الإسلام لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرق يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم لم نعاوضهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بهما، فهي نوع من الرق، لثبوتها بغير اختيار المسترق.

وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي صلى الله عليه وسلم بها أهل خيبر، سواء كان هناك العوض جزءا من الزرع وهنا العوض مسمى معلوم، وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا، وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع. فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استخرج، وأن المضارب يدفع المال مضاربة، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق.

وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر فيها العاقبة، أما جهة الوقف يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا، وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عشريها وخراجيها، وذلك شيء آخر. ونظير هذا الغلط ما عللوا به أرض مكة. [ ص: 373 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية