صفحة جزء
وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم بالقياس وأهله يرد عليهم ، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد ، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدد ، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهد إلا بحق ، وما يخبر به أهل [ ص: 62 ] البر والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سوء حال هذا وحسن حال هؤلاء ، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور ، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجب رجحان موازينهم وخفة موازين مخالفيهم ، صارت تثبت أفئدتهم وتزيد إيمانهم وتدفع عنهم شؤم المعارضات .

والأمر كما أصف وفوق ما أصف ، وكان حصل عندي من هذا ما حصل ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي ، فلما كان في هذه الأوقات حدث من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين ، عين أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومن تتبين الفوائد بمذاكرته وتستفاد المقاصد بمناظرته ، فعلق عليها من الأسولة ما التمس حلها ، ومن المباحث ما اقتضى فرعها وأصلها

قلت في حكاية المناظرة : "قال لي بعض الناس : إذا أردنا أن نسلك سبيل السلامة والسكوت ، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة ، قلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه : آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا سلكنا طريق البحث والتحقيق فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتكلمين . [ ص: 63 ]

فقلت له : أما ما قاله الشافعي فإنه حق يجب على كل مسلم أن يقوله ويعتقده ، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة . وأما إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا ، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا . فاستعظم ذلك وقال ...........

قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلا" : الكلام على [هذا] من ثلاثة أوجه :

أحدها : القول الموجب ، فإن المخالفة القول بما يخالف قولهم ويناقضه ، لا القول بما لم يصرحوا بنفيه ولا بإثباته ، ولا أسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين ، فإن نقل ما ظاهره ذلك حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد العلمية ، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم . وبالجملة فلا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه ، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد ، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجل نعم الله على العباد .

فإن قيل : فقد اشتهر النهي عن الكلام في التأويل . [ ص: 64 ]

قلت : لعل ذلك للعوام ، أو على طريق الورع لا التحريم ، لم قلتم إن الأمر ليس كذلك؟

والوجه الثاني : لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك ، فهل نقل التحريم عن نص الله أو عن نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجة ليست في قول البعض ، لا سيما إذا خالفوا البعض الآخر .

الوجه الثالث : أنا ننقل عنهم الإجماع على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي ، ونطالب بالفرق .

والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين :

المقام الأول : في بيان أن هذه الأسولة هل هي متوجهة واردة يجب الجواب عنها أم لا؟

والثاني : في التبرع بالجواب بتقدير عدم وجوبه .

أما المقام الأول

فيمكن أن يقال : نحن نطالبكم بتوجيه هذه الأسولة ، فإنه ليس منها شيء واردا ، فضلا عن أن يستوجب جوابا .

أما القول بالموجب فعليه أولا مناقشة معروفة ، وهو أن القول بالموجب إنما يرد على الأدلة دون الدعاوي ، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه ، ولهذا قيل : إن القول بالموجب سؤال يرد على كل دليل . لكن المعترض يدعي أنه يقول بموجب دليل المستدل من غير التزام لدعواه ، ببيان عدم دلالته على محل النزاع ، [ ص: 65 ] وحاصله أنه يمنع دلالة الدليل على محل النزاع ، ويضيف إلى ذلك أنه قائل بموجبه ، وموجبه غير محل النزاع ، فالقول بالموجب إبداء لسند المنع .

أما الدعوى قبل ذكر دليلها ، فإذا قيل بموجبها ، بأن كان قولا بموجب قصد المدعي ، فهو موافقة في المسألة وليس باعتراض ، فإن من قال : لا يقتل مؤمن بكافر ، فقيل له : تقول بموجب هذا؟ أي تقول بما قصدته بهذه العبارة ، كان هذا وفاقا لا سؤالا ، وإن كان قولا بموجب لفظه لا يوجب معناه ، بأن يكون اللفظ مشتركا أو مجملا ونحو ذلك ، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي ، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يقتل مؤمن بكافر : تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلاما قليل الفائدة ، ولم يعد من الأسولة الواردة ، بل يعد من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهر اللفظ ينفي القول بالموجب . فإنه يقال له : لم تحرر الدعوى ، بل ادعيت الذي ادعيت بلفظ مجمل أو مبهم بخلاف مقصودك . فأما إن كان ظاهره ينفي القول بالموجب فلا مناقشة فيه أصلا . ثم إذا توجهت المناقشة اللفظية من الناس من يترك مثل هذا السؤال ويقول : هو خروج عن مقصود المسألة ، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظ قد لحن فيه . ومنهم من يورده ويعده من ضبط آداب المناظرة ، والأمر في ذلك قريب .

التالي السابق


الخدمات العلمية