صفحة جزء
وكل تأويل فإنما هو بيان مقصود المتكلم أو مراده بكلامه ، ومعلوم أن العقل وحده لا يشهد بمعرفة مقصود المتكلم ومراده ، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقل بها العقل ، نعم العقل أخذ باستفادته هذه الدلالة ، فإذا انضم [إلى] المعقول العلم بلغة المتكلم وعادته في خطابه فقد يحصل بمجموع هذين العلمين العلم بتأويل كلامه ، نعم قد يعلم بالعقل وبأدلة أخرى أن المتكلم لم يرد معنى من المعاني ، سواء قيل : إنه ظاهر اللفظ ، أو قيل : إنه ليس بظاهره ، كما يعلم أن الله لم يرد بقوله : وأوتيت من كل شيء أنها أوتيت ملك [ ص: 85 ] السماوات وملك سليمان وفرج الرجل ولحيته; ولم يرد بقوله : تدمر كل شيء أنها تدمر السماوات والجنة والنار; ولم يرد بقوله : وخلق كل شيء شمول ذلك للخالق بصفاته . ونعلم أن الله لم يرد بقوله : خلقت بيدي يدين مثل يدي الإنسان ، ولم يرد بقوله : ليس كمثله شيء نفي الصفات المذكورة في الكتاب والسنة .

فإذا كان العقل وحده يشهد بصحة تأويل ، وإنما قد يشهد بعدمه ، فالتأويل الذي يدعي صاحبه أنه علم بمجرد العقل صحته تأويل مردود محرم . نعم إن فسرتم كلامكم أن العقل بما استفاده من العلوم السمعية وغيرها يعلم صحة التأويل ، فهذا حق وإن لم يكن ظاهر اللفظ دالا عليه ، ونحن ما حكينا تحريم مثل هذا التأويل عن أحد ، ولا يمنع تحريمه كلام آخر .

وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين ، فإن الغرض تقرير الحقائق وتحصيل الفوائد ، لا ما يقصده المبطلون من التجاهل والتعاند .

ونقول رابعا : قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أن] التأويل اضطر إليه العلماء ، وبيان ذلك أنا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلا انتفاء أمر من الأمور ، ورأينا بعض [ ص: 86 ] النصوص تقتضي إثباته ظاهرا ، احتجنا إلى تأويله ، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزم الجمع بين النقيضين ، وإن قلنا بنفيهما لزم انتفاء النقيضين ، ثم فيه تعطيل الدليلين من دلالتهما ، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور ، إذ غايته تعطيل دلالة أحدهما ، فلا بد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، ولا يجوز أن يقدم الدليل المثبت لأنه ظاهر ، والنافي قطعي ، والقطعي لا يجوز تخلف مدلوله عنه ، بخلاف الظني . فتعين إثبات مدلول الدليل القطعي دون الظاهر .

ولأن القطعي إذا كان عقليا ، فلو رجحنا عليه الظاهر السمعي لزم القدح في ذلك الدليل العقلي ، والعقل أصل السمع ، فالقدح في العقلي القطعي قدح في أصل السمعي ، والقدح في الأصل قدح في فرعه ، فيصير تقديم السمعي قدحا في السمعي ، وإثبات الشيء بما يقتضي نفيه محال . وإذا تعين إثبات مدلول القطعي العقلي دون الظاهر السمعي ، فنحن بين أمرين : إما أن نفوض معنى الظاهر إلى الله سبحانه وتعالى ، مع علمنا بانتفاء دلالته الظاهرة ، أو أن نؤوله على وجه يسوغ في الكلام .

والقائلون بهذا التقرير يسمون طريق المفوضة النفاة طريق السلف ، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحد قولي الأشعري وغيره من أهل الكلام . ثم هم في هذا على أقوال :

فغلاة المتكلمين يحرمون هذا ويوجبون التأويل ، وذهب إلى هذا ابن عقيل في أحد أقواله ، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية ، ومن هؤلاء من يفيد كلامه بأنه يجب على العلماء دون العامة . [ ص: 87 ]

ومنهم من يحرم التأويل ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه .

ومنهم من يحرمه على أكثر الخلق إلا على القليل ، كأبي حامد الغزالي وغيره .

ومنهم من يسوغ كل واحد من التفويض والتأويل ، ويعد هذا من العلوم التطوعية التي لا تجب ولا تحرم ، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات ، والأحاديث المتضمنة لأوصاف الملائكة والجن ونحو ذلك ، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضا على الكفاية .

منعكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم ، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوه :

أحدها : أن لا موجب لتحريمه ، والأصل الإباحة ، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل .

الثاني : أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مراد الله ورسوله ، وجنس العلم خير من جنس الجهل ، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرما؟

الثالث : أن المخالف للحق من الكفار والمبتدعة إن لم نتأول لهم هذه النصوص لزم سوء الظن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ووقوع شبهة [ ص: 88 ] الاختلاف في كلام الله وكلام رسوله ، ونفور الناس عن القرآن والإسلام ، ونفور أهل الباطل عن الحق . والتأويل هو أسرع إلى القبول وأدعى إلى الانقياد ، فأقل أحواله أن يكون بمنزلة تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة ، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يحصل بدونها ، مع أن الحاجة لا تدعو إليها ، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهره القواطع العقلية والسمعية .

الرابع : أن الطالب الذكي يضيق صدره بأسر التقليد ، ويحب أن يخرج إلى بحبوحة العلم ، فلا تقنع نفسه ويرضى عقله إلا بالوقوف على التأويل ، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق ، فإذا عرف التأويل اطمأن قلبه وانشرح صدره ورضي عقله ، والبدن لو احتاج إلى طعام وشراب لغذاء أو دواء يحصل له الضرر بفقده لأباحه الله له ، بل قد أباح الأكل في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وجد مشقة بالصوم ، وأباح ترك القيام في الصلاة إذا خاف زيادة المرض أو لطول البرء . فكيف لا يبيح ما يضر عدمه القلوب لعقولها والنفوس لوجودها ، ويزيد بعدمه مرض القلب والدين ، أو يتأخر بفقده الشفاء من مرض الكفر والنفاق . وكما أن الأطعمة والأشربة تختلف شهوة الناس وحاجتهم إليها باختلاف قواهم وأمزاجهم ، فرب مزاج يقرم إلى اللحم ما لا يقرمه غيره ، ومن كان مقيما بطيبة إبان الجداد كانت شهوته إلى الرطب بخلاف شهوة سكان الشام ، ومن كانت رياضته البدنية أقوى وأكثر -كالحمالين والحراثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشد . [ ص: 89 ]

كذلك العلوم والطرق ، فمن كان ذكيا كان شوقه إلى درك الأمور الدقيقة أشد ، ومن راض عقله بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافها كانت حاجته إلى الازدياد منها والوقوف عليها أشد . والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين . وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يستلزم الحاجة والشوق إلى أشياء ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك . ولهذا من لم ير المطاعم الشهية والمناظر البهية لا يشتهيها كشهوة المبتلى بها . فمن لم تنفتح عين بصيرته لصنوف المعارف ، ولا توسعت في قلبه أنواع المعالم ، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقادة والمعارف المستفادة ، ولا يشتاق كاشتياقهم . وهذا تقرير قول السائل -أيده الله- : "لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد" .

الخامس : أن نعمة الله على عباده بنفوذ البصيرة من أفضل النعم ، وإدراك حقيقة مراد الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق ، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلا أقبح من تحريم استعمال قوى الأبدان في دفع أعداء الدين وعبادة رب العالمين ، وتحريم إنفاق الأموال في سبيل الله . بل تحريم هذا تحريم لطلب الدرجات العلى والنعيم المقيم ، والله لا يحرم مثل هذا ، بل يستحبه إن لم يوجبه .

السادس : أن إبقاء النصوص المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعة إلى اعتقاد موجبها وتقلد مقتضاها . وتأويلها [ ص: 90 ] يحسم هذه المادة ، فيصير الأول مثل بناء الأسوار للأمصار ، والثاني كتركها بلا سور . بل الأول بمنزلة كشف النساء الحسان لوجوههن ، والثاني كسترها ، أو الأول بمنزلة ترك المردان الصباح يعاشرون الأجانب ، والثاني كصونهم من هذه العشرة . فإن لم يكن الثاني واجبا أو مستحبا فلا أقل من أن يكون مباحا .

وهذا معنى قول بعض الناس: طريقة السلف أسلم ، وطريقة الخلف أحزم وأحكم; لأن طريقة أهل التأويل فيها مخاطرة بالإخبار عن مراد الله بالظن ، الذي يجوز أن يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ ، وذلك قول عليه بما لا يعلم ، والأصل تحريم القول عليه بالظن ، وكان تركها أسلم . وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة ، فكانت أحزم وأحكم .

وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغهم أن العدو قاصدهم ، وبيت المال خال ، فهل يسوغ أن يجمع من أموالهم ما يبني به سورهم لحفظهم من العدو إلى لحوق الذرى ، واندفاع العدو بشدة البرد المخاطرة بأخذ الأموال بغير طيب نفوس أصحابها ، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال ، والحزم بضبط الدين عن الانحلال .

وهب هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قوم الحظر ، وقوم الوجوب ، وقوم يخيرون بين الأمرين ، وقوم يوجبون فعل الأصلح . ويختلف الأصلح باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص . [ ص: 91 ]

السابع : أن السلف تكلموا في تفسير القرآن كله ، وما رأيناهم حرموا تفسير شيء منه ، إلا أن ينقل عن أحدهم أنه ترك القول فيه ، أو حرم القول على غيره بغير علم ، أو تركه خوف الخطأ على سبيل الورع ونحوه . وكتب التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرها ، فكيف يدعي هذا أن المعتبرين حرموا ذلك؟

التالي السابق


الخدمات العلمية