صفحة جزء
والمقصود الكلام على اسمه "القيوم" ، والتنبيه على بعض ما دل عليه من المعارف والعلوم ، فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض ، لو أخذته سنة أو نوم لهلكت السماوات والأرض . والمخلوق ليس له من نفسه شيء ، بل الرب أبدع ذاته ، فلا قوام لذاته بدون الرب ، والمخلوق بذاته فقير إلى خالقه ، كما أن الخالق بذاته غني عن المخلوق ، فهو الأجل الصمد ، والمخلوق لا يكون إلا فقيرا إليه ، والخالق لا يكون إلا غنيا عن المخلوق ، وغناه من لوازم ذاته ، كما أن فقر المخلوق إلى خالقه من لوازم ذاته . وهذا المعنى مما يتعلق بقول الله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم تعلقا قويا .

والناس يشهدون إحداثه لمخلوقات كثيرة وإفناءه لمخلوقات كثيرة ، وهو سبحانه يحدث ما يحدثه من إرادة يحيلها ويعدمها إلى شيء آخر ، ويفني ما يفنيه بإحالته إلى شيء آخر ، كما يفني الميت بأن يصير ترابا .

وعلى هذا تترتب مسائل المعاد ، فإن الكلام على النشأة الثانية فرع عن النشأة الأولى ، فمن لم يتصور الأولى فكيف يعلم الثانية؟ [ ص: 174 ] قال تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون . فهؤلاء غلطوا في معرفة النشأة الأولى ، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلط ، كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع .

وكان غلطهم لأنهم ظنوا أن الله يفني العالم كله ولا يبقى موجود إلا الله ، كما قالوا : إنه لم يكن موجود إلا هو ، فقطعوا بعدم كل ما سوى الله . ثم اختلفوا ، فقال الجهم : إنه يفني العالم كله ، وإنه وإن أعاده فإنه يفني الجنة والنار ، فلا يبقى جنة ولا نار ، لأن ذلك يستلزم دوام الحوادث ، وذلك عند الجهم ممتنع بنهاية وبداية في الماضي والمستقبل . وقال الأكثرون منهم : بل هو إذا أعدم العالم بالكلية فإنه يعيده ولا يفنيه ثانيا ، بل الجنة باقية أبدا ، وفي النار قولان .

وهؤلاء قطعوا بإفناء العالم ، وللنظار فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : القطع بإفنائه .

والثاني : التوقف في ذلك ، وأنه جائز ، لكن لا يقطع بوجوده ولا عدمه .

والثالث : القطع بأنه لا يفنيه . وهذا هو الصحيح ، والقرآن يدل على أن العالم يستحيل من حال إلى حال ، فتنشق السماء فتصير [ ص: 175 ] وردة كالدهان ، وتسير الجبال وتبس بسا ، وتدك الأرض ، وتسجر البحار ، وتنكدر النجوم وتتناثر ، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن ، لم يخبر بأنه يعدم كل شيء ، بل أخباره المستفيضة بأنه لا يعدم الموجودات .

فقوله : كل من عليها فان أخبر فيه بفناء من على الأرض فقط ، والفناء يراد به الموت ولا يراد به عدم ذواتهم ، فإن الناس إذا ماتوا صارت أرواحهم إلى حيث شاء الله من نعيم وعذاب ، وأبدانهم في القبور وغيرها ، منها البالي وهو الأكثر ، ومنها ما لا يبلى كأبدان الأنبياء ، والذي يبلى يبقى منه عجب الذنب ، منه بدأ الخلق ومنه يركب . فهؤلاء لما قالوا : إنه يفني جميع العالم وإن ذلك واقع وممكن ، احتاجوا إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وإلا فالفناء الذي أخبر به القرآن هو الفناء المشهود بالاستحالة إلى مادة ، كما كان الإحداث [ ص: 176 ] بالحق من مادة .

فاسمه سبحانه "القيوم" يقتضي الدوام والثبات والقوة ، ويقتضي الاعتدال والاستقامة ، وقد وصف نفسه بأنه قائم بالقسط ، وأنه على صراط مستقيم . ومنه قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ومنه قامة الإنسان وهو اعتداله ، ومنه قيام الإنسان ، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينة ، ومنه قول الشاعر :


أقيمي أم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم



فإنه أراد : وجهي صدور العيس نحو بني تميم . والعيس هي الإبل التي تركب ويحمل عليها ، ويقال : الإبل العيس ، جمع عيساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية