صفحة جزء
ثم يعدون التوله والتجانن وقلة العقل والخروج عن العقل والدين قربة وطاعة ، ويوهمون الجهال والأغمار من الأعراب والأتراك والفلاحين والنسوان أن هؤلاء صفوة الله تعالى ، وإن هؤلاء قد ورد عليهم من الأحوال ما جعلهم هكذا ، فيتصرفون في النفوس والأموال تصرف اللص الخادع والمنافق المخادع ، موهمين حصول البركة [ ص: 222 ] لمن أفسدوا عليه دينه ودنياه ، كما يفعل الرهبان والقسيسون بعوام النصارى ، وهذا شيء لم يبعث الله به نبيا ولا قاله رجل صالح قط ، ومن كان من الناس قد ذهب عقله حتى صار مجنونا فقد رفع القلم عنه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" .

وينبغي أن يعالج هذا بما يعالج به المجانين ، فإن الجنون مرض من الأمراض أو عارض من الجن ، ومن هؤلاء قوم لهم قلوب فيها تأله وإنابة إلى الله تعالى ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا ، قد يسمون "عقلاء المجانين" ، وقد يسمون "المولهين" فهم كما قال فيهم بعض العلماء : "قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم ، فأسقط ما فرض بما سلب" .

فالمجانين كالعقلاء فيهم من فيه صلاح ، وفيهم من لا صلاح له .

وسبب جنون أحدهم : إما وارد ورد عليه من المحبة أو المخافة أو الحزن أو الفرح حتى انحرف مزاجه . أو خلط غلب عليه من السوداء . أو قرين قرن به من الجن .

فهؤلاء إذا صح أنهم مجانين ومولهون كانوا في قسم المعذورين الممنوع على الفساد ، ولا يحل الاقتداء بمن فيه منهم صلاح; [ ص: 223 ] ولا اتباع ما يقول من الأقوال والأفعال إلا أن يوافق الشريعة .

ولا ينبغي تعظيمهم ، فإنهم منقوصون مجروحون ، وصالحو العقلاء أفضل منهم بكثير كثير ، وليس فيهم ولي ولا صالح مشهور ، وإنما يغتر بهم بعض الجهال ، لأن جنونهم يوجب أن يظهر بعض ما في بواطنهم من كشف أو زهد أو تأثير فيستعظم الجاهل ذلك .

وصالح العقلاء قد يكون معه أضعاف ذلك ، ولا يظهره إلا حيث يراه مصلحة ، وقد يكون كتمانه أصلح لهم; فأما هؤلاء المفتلون الشعر ونحوهم ، فعامتهم متولهون لا مولهون ، يظهرون ذلك كذبا ومكرا ومخادعة للجهال ، كي يتميزوا بذلك مما يريدونه من النفوس والأموال ، وحتى لا ينكر عليهم ما يقولونه ويفعلونه من القبيح ، فيقول الجاهل : هذا موله .

وأحدهم يميز بين الدرهم والدينار ، والغني والفقير ، ويعرف الخير والشر ، وله فكر طويل في الحيلة التي يحتال على الجهال بها ، ويتواجدون عند السماع المحدث أو غيره ، فيصيحون ويزعقون ويزبدون ويتغاشى أحدهم ، فبعض ذلك كذب ومكر وحيلة ، وبعضه عادة فاسدة وطريقة سيئة .

التالي السابق


الخدمات العلمية