صفحة جزء
وشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس والجماعات ، حتى أمرهم الله أن يقيموها في الجماعة حال الخوف ، قال الله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" .

وقال : "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة" . [ ص: 232 ]

وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة ، لا سيما في صلاة الفجر ، كما قال تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .

وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : "يا أبا موسى ذكرنا ربنا" فيقرأ وهم يستمعون .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج على أهل الصفة فوجد فيهم رجلا يقرأ وهم يستمعون ، فجلس معهم يستمع .

وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند السماع كما ذكر الله تعالى في كتابه توجل قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم . قال الله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وقال تعالى : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، وقال تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، وقال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا [ ص: 233 ] له وأنصتوا لعلكم ترحمون .

فلما كان التابعون فيهم من يموت أو يصعق عند سماع القرآن فمن السلف من أنكر ذلك ورآه بدعة ، وأن صاحبه متكلف ، وأما أكثر السلف والعلماء فقالوا : إن [كان] صاحبه مغلوبا ، والسماع مشروعا ، فهذا لا بأس به ، فقد صعق الكليم لما تجلى ربه للجبل ، بل هو حال حسن محمود فاضل بالنسبة إلى من يقسو قلبه .

وحال الصحابة ومن سلك سبيلهم أفضل وأكمل ، فإن الغشي والصراخ والاختلاج إنما يكون لقوة الوارد على القلب ، وضعف القلب عن حمله ، فلو قوي القلب -كحال نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- لكان أفضل وأكمل .

ولو لم يرد على القلب ما يحركه لكان قاسيا مذموما ، كما ذم الله تعالى اليهود على قسوة القلوب .

وما زال السلف كذلك إلى حد المئة الثالثة ، صار قوم من العباد يجتمعون لسماع القصائد المرققة ، وربما ضربوا بالقضيب لذلك ، ويسمون ذلك التغبير ، فأنكر الأئمة ذلك ، ورأوا أنه بدعة محدثة; إذ لم يفعله السلف حتى قال فيهم الشافعي رضي الله عنه : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن . [ ص: 234 ]

وكره أحمد الجلوس معهم فيه ، وقال : هو محدث أكرهه ، ورأى أنهم لا يهجرون; لأنهم متأولون .

وحضر هذا السماع المحدث قوم من الصالحين وكرهوه .

وتركه أفضل من حضوره . والذين حضروه اشترطوا له شروطا كثيرة مثل المكان والخلان والخلوة من المفاسد .

ومع هذا فالحجة من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرهه ، ونهى عن التعبد به ، وإن كان يرخص في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء وضرب الدف كما جاءت به السنة ، فهذا نوع من اللهو واللعب ، ليس هو من نوع العبادات والقرب والطاعات ، كما يفعله المبتدعون للسماع المحدث ، وبكل حال فالإكثار منه حتى يفعل في المساجد ، وحتى يشتغل به عن الصلوات ، وحتى يقدم على القراءة والصلاة ، وحتى يجعل شعار الشيخ وأتباعه ، وحتى يضرب بالمعازف ، لا ريب أنه من أعظم المنكرات ، وهو مضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله تعالى فيهم : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . قال السلف : المكاء : الصفير نحو الغناء ، والتصدية : التصفيق باليد .

فمن اتخذ الغناء والتصفيق قربة ففيه شبه من هؤلاء ، وإذا شغله عما أمر به وفعله في المسجد ، فقد اندرج في قوله : وما كان صلاتهم الآية ، وفي قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا [ ص: 235 ] الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ; وفي قوله : وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، لا سيما وقد قيل : إنها نزلت في أعياد الجاهلية المشابهة لهذا السماع المشتمل على اللهو واللعب .

قال الله تعالى : والذين لا يشهدون الزور ، وقيل : إن هذا من الزور . وقد قال الله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم . وقال الله تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك . وقال تعالى : وأنتم سامدون .

وقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان قال : يا رب اجعل لي قرآنا ، قال : قرآنك الشعر ، قال : اجعل لي مؤذنا ، قال : مؤذنك المزمار ، قال : اجعل لي بيتا ، قال : بيتك الحمام" .

والأحاديث في هذا كثيرة .

فإذا كان الشيخ يزعم أنه يدعو إلى الله وإلى طاعته ، ليس شعاره إلا جمع الناس على مزمور الشيطان ومؤذنه وقراءته ، وقل أن يجمعهم [ ص: 236 ] على أذان الله وقراءته وصلاته ، كان إماما من أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، وكان من اتبعه له نصيب من قوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا .

وقال تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

التالي السابق


الخدمات العلمية