صفحة جزء
والمحبوب المشتهى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه ، ويصرف عنه خوف ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى .

فمن أحب امرأة فأتاه من هو أحب إليه منها ، وقيل لا يعطى هذه إلا بترك تلك اشتغل بها عنها ، فإن أعطي من المال ما هو أحب إليه منها ، أو من الأولاد ما هو أحب إليه منها ، على طريق المعاوضة ، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا يجتمعان ، إذا كان أحدهما أحب إليه ترك الآخر لأجله .

وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربا ، أو حبسا ، أو أخذ مال ، أو عزلا ، كان دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرم ، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها شيئا من هذه المحبوبات ، ولا دفع هذه المكروهات فهذا لا يتركها لذلك . وإذا كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحب الله ورسوله أعظم من كل شيء ، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئا [ ص: 249 ] من ذلك ، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات التي يبغضها الله ورسوله ، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة الإيمانية .

فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة لما قدم عليها لذة تنقصها وتزيلها ، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصا لله واجدا لحلاوة العبادة والذكر والمعرفة الصارف قلبه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها ، كالمشغول بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل ، بخلاف ما إذا عدم هذه الحلاوة الإيمانية ، فإنه حينئذ يميل إلى شيء من المحرمات ، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله التام وهو مؤمن ، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه ، بل إلى سخطه وغضبه والبعد عنه ، فمتى خاف زوال محبوب أحب إليه من ذلك ، أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] هذه المحرمات .

فالذنب تارة يعدم لعدم المقتضي ، وتارة لوجود المانع ، والثاني هو الغالب ، فإنه الداعي في النفس ، والأول موجود إذا حصل في القلب من حلاوة الإيمان وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داع ، كالجائع الذي أكل من الطعام الطيب ما يغنيه عن الرديء ، فإذا شبع لم يبق له داع ، بل إذا كان قادرا على هذه كان مكتفيا عن ذلك .

وكذلك العطشان ، والنفس مطلوبها ما يسرها ويلذها ، فإذا وجدت اللذة والسرور التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة . [ ص: 250 ]

والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها ، وإما لحبه الداعي له إلى ذلك ، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك ، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه ، فإذا لم يحصل له بقي في ألم يؤذيه بحسب شهوته ، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أعجبت أحدكم امرأة فليأت أهله ، فإن معها مثل ما معها" . وفي الدعاء المأثور : "اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبفضلك عمن سواك" .

التالي السابق


الخدمات العلمية