صفحة جزء
[ ص: 261 ] فصل

في قوله - صلى الله عليه وسلم - : أصدق كلمة قالها شاعر

كلمة لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل

[ ص: 262 ] [ ص: 263 ] فصل

في قوله - صلى الله عليه وسلم - : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقد جعل هذه الكلمة أصدق كلمة قالها شاعر ، وهذا كقوله : ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وقال : فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ، ونحو ذلك يتناول كل معبود من دون الله من الملائكة والبشر وغيرهم من كل شيء ، فهو باطل ، وعبادته باطلة ، وعابده على باطل ، وإن كان موجودا كالأصنام .

و"الباطل" يراد به : الذي لا ينفع عابده ، ولا ينتفع المعبود بعبادته . فكل شيء سوى الله باطل بهذا الاعتبار ، حتى الدرهم والدينار ، كما في الدعاء المأثور : "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم" ، فإن كل نفس لا بد لها أن تأله إلها هو غاية مقصودها ، فكل ما سوى الله باطل ، وهو ضال عن عابده ، كما أخبر بذلك في كتابه . [ ص: 264 ]

و"الضلال" يراد به الهلاك ، كما قال تعالى : وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد قالوا : معناه هلكنا وصرنا ترابا . وأصله من قوله : ضل الماء في اللبن ، إذا هلك فيه وتلاشى . فإذا كان الضال في الشيء هالكا فيه ، فالضال عنه هالك عنه . ولهذا قال : ضل سعيهم في الحياة الدنيا أي : هلك وذهب ، وهو بمعنى بطل .

فكل معبود سوى الله فهو باطل وضال ، يضل عابده ويضل عنه ، ويذهب عنه ، وهالك عنه ، إلا وجه الله . فعبادة ما سواه فاسدة وباطل وضلال ، والمعبود سواه فاسد .

قال مجاهد في قوله : كل شيء هالك إلا وجهه قال : إلا ما أريد به وجهه . وقال سفيان الثوري : إلا ما ابتغي به وجهه . كما يقال : ما يبقى إلا الله والعمل الصالح . وفي الحديث : "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، وعالم ومتعلم" . فأي شيء قصده العبد وتوجه إليه بقلبه أو رجاه أو خافه أو أحبه أو توكل عليه أو والاه ، فإن ذلك هالك مهلك ، ولا ينفعه إلا ما كان لله . [ ص: 265 ]

وهذا بخلاف قوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، فإنه حصر كل من عليها ولم يستثن ، مع أن هذا المعنى يدل عليه ، فإن جميع الأعمال تفنى ، ولا يبقى منها شيء ينفع صاحبه إلا ما كان لوجه ذي الجلال والإكرام ، كما قال مالك : ما كان لله فهو يبقى ، وما كان لغير الله لا يدوم ولا يبقى .

وقال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولهذا قيل : الناس يقولون : قيمة كل امرئ ما يحسن ، وأهل المعرفة يقولون : قيمة كل امرئ ما يطلب . ومما روي عن بني إسرائيل : "يقول الله : إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، ولكني إنما أنظر إلى همته" .

وقد روي أن الله سبحانه يقول : "إن أدنى ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أمنع قلبه حلاوة ذكري" . وتصديق ذلك في القرآن : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ، وقال : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون . وفي الصحيح حديث الثلاثة الذين أول ما سعرت بهم النار ، ذكر منهم العالم الذي يقول : تعلمت العلم فيك وعلمته فيك ، فيقال له : [ ص: 266 ]

كذبت ، بل أردت أن يقال فلان عالم ، وقد قيل ، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار
. ومعاوية لما سمع هذا الحديث بكى وقال : صدق الله وبلغ رسوله ، ثم قرأ قوله : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .

وكذلك في الحديث في السنن : "من طلب علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا ، لم يرح رائحة الجنة" . وفي الحديث الآخر : "من طلب علما -أو قال : من تعلم علما- ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ، ويتأكل به الدنيا ، ويصرف به وجوه الناس إليه ، لقي الله وهو عليه غضبان" .

وفي رواية : "لم يجد عرف الجنة" .

وهذا باب واسع قد بسط في غير هذا الموضع ، وتكلمنا فيه على آية هود وآية سبحان وآية الشورى وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذم العالم وغيره المريد للدنيا والقالة ، وبينا فيه أمارات ذلك ، وبينا أن الدين كله لله ، وأن الله أغنى الشركاء عن الشرك ، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوف الخلق في هذا المقام الخطر .

التالي السابق


الخدمات العلمية