صفحة جزء
والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر ، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى ، لكن هذه الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال : الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص . وقد قال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .

فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنا; ولهذا روى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "من مات ولم يغز ولم يحدث [ ص: 361 ] نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق" .

وذلك أن الجهاد فرض على الكفاية ، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما ، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين . ولا بد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به ، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه ، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله . فمن مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك; فمات على شعبة نفاق .

فإن قيل : فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين قالت : يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال : "لكن أفضل الجهاد : حج مبرور" رواه البخاري ، ورواه النسائي ، وفيه : ألا نخرج نجاهد معك فإني لا أرى عملا أفضل من الجهاد . قال : "لا ، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور" .

قيل : أفضل الجهاد للنساء حج مبرور . فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور . وكذلك جاء مبينا ، رواه النسائي عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة : الحج والعمرة" . وفي حديث آخر : "الحج جهاد كل [ ص: 362 ] ضعيف" . وفي حديث آخر : هل على النساء جهاد؟ قال : "جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة" .

سياق الحديث المتقدم بين ذلك ، فإنها قالت : نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال : "لكن أفضل الجهاد : حج مبرور" . فقد أقرها على قولها : "نرى الجهاد أفضل العمل" ، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور" .

وفي اللفظ الآخر : ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال : "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور" . فأقرها على قولها بفضل الجهاد ، ثم لما استأذنته في الجهاد المعروف قال : "لا ، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت" ، وجعل فضله بكونه جهادا ، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين; فعلم أنه أراد جهاد النساء ، واللام للتعريف ، ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب .

ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله;- فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج; فإن السائل ضعيف; والحج جهاد كل ضعيف . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "المؤمن القوي خير وأحب إلى [ ص: 363 ] الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان" .

التالي السابق


الخدمات العلمية