صفحة جزء
وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع ، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان ، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضا من أكثر الرعية ، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما أدوا الواجبات التي عليهم ، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال ، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق ، ويصرفونه في غير مصرفه ، ويتركون أيضا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن ، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراء وأهواء ، وهي مشتملة على طاعات ومعاصي وحسنات وسيئات ، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا ، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام ، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق ، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال ، فإنها أيضا مشتملة على حسنات وسيئات ، طاعات ومعاصي ، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا . [ ص: 398 ]

فالواجب أن ما شهد الدليل الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحته عمل به ، ثم يعامل الرجال والأموال بما توجبه الشريعة ، فيعفى عما عفت عنه ، وإن تضمن ترك واجب أو فعل محرم ، ويثنى على ما أثنت عليه ، وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة . وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمال والأموال داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام ، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه . ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب" .

فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح ، كما أمر به في قوله : كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ، إذ أمر به المرسلين والمؤمنين ، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم . وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام ، كما قال : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث . [ ص: 399 ]

وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فدل ذلك على أن من الناس من يعلمها ، فمن تبينت له الشبهات لم يبق في حقه شبهة ، ومن لم تتبين له فهي في حقه شبهة ، إذ التبين والاشتباه من الأمور النسبية ، فقد يكون الشيء متبينا لشخص مشتبها على الآخر .

وبين أن الحزم ترك الشبهات ، والشبهات قد تكون في المأمور به ، وقد تكون في المنهي ، فالحزم في ذلك الفعل وفي هذا الترك ، فإذا شك في الأمر هل هو واجب أو محرم فهنا هو المشكل جدا ، كما في الاعتقادات ، فلا يحكم بوجوبه إلا بدليل ولا بتحريمه إلا بدليل ، فقد لا يكون لا واجبا ولا محرما وإن كان اعتقادا ، إذ ليس كل اعتقاد مطلق أوجبه الله على الخلق ، بل الاعتقاد إما صواب وإما خطأ ، وليس كل خطأ حرمه الله ، بل قد عفا الله عن أشياء لم يوجبها ولم يحرمها . والله أعلم .

(تم بحمد الله تعالى وعونه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مائة ، بمدرسة أبي عمر قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية