صفحة جزء
والغالب أن الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا، وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشد من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررت هذا في قاعدة "بيان أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبما يعقل به ذلك من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه. [ ص: 41 ]

فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا لهم حقا واجبا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعا باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم.

وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغيا بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والباغي قد يكون متأولا وقد لا يكون متأولا، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم. [ ص: 42 ]

فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغ يعلم أنه باغ لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متأولين، بل كانوا ظلمة ظلما صريحا، وهم البغاة الذين لا تأويل معهم.

وهذا القدر من البغي بتأويل ، وأحيانا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية