صفحة جزء
وبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان.

وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لذاته، فإنه إنما يحب لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة.

وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكل ما يذكر عن عشاق الصور والمال والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا زادت على الحاجة ضرت على الإنسان وأفسدته.

ولهذا يقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذات الدنيا متضمنة دفع ألم، بخلاف لذات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل من المعلول، سواء كانت فاعلية أم غائية. [ ص: 119 ]

فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله- الذي هو المحبوب المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلا، ولولا ذلك لم يكن فاعلا، وإن كان الفاعل مستغنيا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلا، والغائية غير مفتقرة إلى الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ومطلوب، سواء قدر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل.

فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ولهذا قدم سبحانه قوله: إياك نعبد على قوله: وإياك نستعين لأن العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها.

وكونه سبحانه إلها معبودا للخلق أكمل من جهة كونه ربا معينا لهم من جهتهم ومن جهته.

أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون شقيا معذبا، وإن كان مربوبا مخلوقا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فآمنوا به وأطاعوا رسله.

وأما من جهته فإنه يكون إلها يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربا يفتقرون إلى ما منه، وكون الشيء مقصودا لنفسه أشرف من كونه مقصودا لغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية