صفحة جزء
[ ص: 182 ] واعلم أنه كما يعقل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يعقل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببا للآخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمة وغاية للآخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطا للآخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها.

فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مسبحة بحمده، قانتة له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دل القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء آخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقا، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت [ ص: 183 ] عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بينها الله تعالى في كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، وقال: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ، وقال: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودين كما لا يكون أحدهما فاعلا للآخر ولا سببا له، فلا يكون كل منهما معلولا للآخر ومقصودا له هو منتهى إرادته، ولا يكون كل منهما هو المقصود بالآخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحاب من الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس والبهائم يحب كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، بل كل من الزوجين قد يكون الآخر محبوبا له معشوقا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب والتعاشق الذي هو محرم ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع.

قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته [ ص: 184 ] ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للآكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين أو بغيره.

ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا ... أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة تحلل الرطوبة دائما، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه الحكمة موجودة في الدنيا.

ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون لأهل الملل مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا [ ص: 185 ] مفقود في الآخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست لذات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الأكل يدفع ألم الجوع، والنكاح يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ليست لذة وإنما هي دفع آلام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ألم، فالأمران موجودان.

التالي السابق


الخدمات العلمية