صفحة جزء
وأما ما انعقد سببه التام فوجد، أو انعقد سببه المقتضي فهو معترض للوجود، فهذا إن لم يوجد ما يعارضه وينافيه لم يعدم.

فالعدم الحادث الطارئ كالوجود الحادث الطارئ، كل منهما لا [ ص: 207 ] بد له من سبب، لكن الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم يكفي فيه كل واحد من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقر إلى الأمرين كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عني بالسبب العلة المقتضية دون التامة، وأما إذا عني به العلة التامة فهذه العلة يلزم من وجودها وجود المعلول، ومن عدمها عدم المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلا على عدمها.

وبهذا التفسير تزول الشبهة الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه المحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاع والجدال، وينتشر فيها القيل والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا فسرت الأسماء المشتركة وفصل الحق من الباطل وحكم بالعدل بين الفرق والمقالات ظهر الكتاب والسنة والجماعة، وزال الضلال والبدعة والفرقة.

فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرك والداعي ونحو ذلك من الأسماء هي أسماء متقاربة، تكون مترادفة من وجه ومتباينة من وجه، وفيها تقسيمان:

أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يوجد بها المعلول لا محالة، وإلى مقتضية قاصرة تقف على شروط وانتفاء موانع. ولفظ العلة يعبر به عن كل من المعنيين في أصول الدين وأصول الفقه وفي الكلام والفلسفة وغير ذلك.

فأما الأولى فلا توجد إلا مجموع أمور، وما ثم سبب واحد يوجب مسببه لا محالة وينتفي مسببه عند انتفائه إلا مشيئة الله، فإنه ما شاء كان [ ص: 208 ] وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه فعال لما يشاء، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ، وقال تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله . وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلا القدرية من جميع الطوائف الذين يزعمون: قد يريد ما لا يكون، ولا يفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. فإرادته سبحانه ومشيئته هي السبب والعلة الكاملة التامة وجودها، ومحبوبه ومرضيه هي الحكمة والغاية التامة الكاملة.

هذا في العلة السببية، وأما الغائية فهو كذلك أيضا، غالب التام منها مركب، وما ثم ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلا محبوب الله ومرضيه، وإن كان الحب والرضا يستلزم ... ، فإن عبادته وطاعته وطاعة رسله هي غاية الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الآخرة. وأما ما فى حق الرب وأمره فإن محبوبه ومرضيه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن كان من الأسباب والوسائل ما هو مراد غير محبوب ولا مرضي، فإن الشيء المحبوب المشتهى قد [ ص: 209 ] يتوقف حبه على وجود شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء النار الإحراق والماء الإغراق، والطعام والشراب للشبع والري، والشعاع للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكل هذه الأمور قد يتخلف مقتضاها لفوات شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، فإن جعلت العلة مجموع الأمور التي يجب عندها الحكم فهي العلة التامة، وإن جعلتها الأمر المقتضي للحكم لولا المعارض المقاوم فهي العلة المقتضية الناقصة.

وبهذا التقسيم يعرف اختلاف العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز تخصيصها، فإن عني بالعلة التامة فتلك لا تقبل التخصيص، وإن عني بها المقتضية فإنها تقبل التخصيص. وهذا عام في العلل الكونية والدينية، الطبعية والشرعية، العقلية والسمعية.

فإن قلت: فإن كثيرا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية توجب معلولها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة الشرعية.

قلت لك: هؤلاء مرادهم بالعلة الصفات التي توجب الأحوال، مثل أن العلم علة كون العالم عالما، والحركة علة كون المتحرك متحركا، مبنية على ثبوت الأحوال في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوال من متكلمة المعتزلة ومتكلمة الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرق بين العلم والعالمية والقدرة والقادرية، ويجعل الصفات توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس كون [ ص: 210 ] العالم عالما، والحركة نفس كون المتحرك متحركا، ليس عندهم هنا شيئان أحدهما علة والآخر معلول.

التالي السابق


الخدمات العلمية