صفحة جزء
وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدونه ظلما، كما هو في أكثر النفوس العامية، بناء على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فرض خلو العباد عن شرع يجعلون العقل معرفا لوجوب ذلك مع الشرع، كما تعرف بالعقل أمور كثيرة تعرف بالشرع أيضا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلوم أن ترك الحق الواجب ظلم، فيناسب أصولهم أن لا يكون الظلم مجردا لإضرار غير المستحق، بل يدخل فيه ترك ما يحب لذاته وفعل ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عرف بالعقل أن الظلم من الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حق، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم منه نظير الظلم من العباد بعضهم بعضا، فيجعلون لله أندادا، ويمثلونه بخلقه، ويضربون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال. [ ص: 241 ]

وقد عارضهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما أثبتوه "من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب له على خلقه من الحق، نزاعا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن فعل قبيح أو تسمية شيء مما يقدر عليه قبيحا أو ظلما أو سفها، لأنه لا يتضرر بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله ويتضرر به، أو لمن فوقه آمر مطاع أمره يخافه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من معرفة عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقبح شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا كونه منهيا عنه، ولا معنى لحبه إلا كونه مأمورا به.

وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوع من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فالحق الذي معهم أضعاف الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون العقل معرفا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعهم في أمور عظيمة، وعظم الذم لهم بسبب ذلك. وأما هؤلاء فقصروا نوع تقصير لدقة الأمر وغموضه، وحصل منهم نوع تعد باجتهاد قل أن يسلم منه في هذه المضايق إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج.

التالي السابق


الخدمات العلمية