صفحة جزء
والجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة. والصلاة بالماء جمعا خير من الصلاة بالتيمم مفرقا.

فمن علم أنه لا يجد الماء إلا في وقت العصر كان صلاته الظهر والعصر بالماء جمعا وقت العصر خيرا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك من وجده وقت الظهر وعلم أنه لا يجده إلا وقت المغرب كان جمعه بالماء أفضل، كما تكون صلاته في آخر الوقت المختص بالماء أفضل من [ ص: 362 ] صلاته في أوله بالتيمم.

فإن قيل: إنما جمع لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاته في أحد الوقتين جمعا بالوضوء خير من صلاته مفرقة بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعا خير من صلاتها بالوضوء في الوقت المختص، والواقف بعرفة صلاته العصر جمعا مع الظهر لإتمام الوقوف خير من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجة ولا تحصيل واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحب، وهو كمال الوقوف، فدل على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكمل من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكمل في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقف يريد أن يفيض بعد الغروب إلى مزدلفة كان كما روي عنه أنه كان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى الظهر، فصلاهما جمعا.

قيل: إن كان جمعه كذلك دل على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمع لمواصلة السير فالجمع لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعه لمجرد السفر، فإنه لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وقد كان يصلي قصرا بلا جمع، ولم يقل أحد قط أنه جمع بمنى ولا صلى أربعا، بل كلهم متفقون على أنه قصر ولم [ ص: 363 ] يجمع، فعلم أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسير، كما قال ابن عمر وغيره: كان إذا جد به السير فعل ذلك، مع أن النزول ممكن ليس فيه إلا تفويت الإسراع الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزل وصلى العصر ثم ركب وأتم الوقوف كان ممكنا، لكن يفوت بذلك كمال مقصود الوقوف والإفاضة. فعلم أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة دنيوية.

وإذا كان قد جمع لتحصيل عبادة هي أفضل من التفريق من غير أن يكون ذلك واجبا ولا ضرر فيه علم أن الجمع يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. وقد نص أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسره القاضي بما يبيح ترك الجمعة والجماعة. ونص على جمع المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة.

ومما يبين ذلك أن الجمع لو كان معلقا بسبب محدود يدور معه وجودا وعدما كالقصر والفطر، لكان الشارع يعلقه به، كما علق الفطر بالمرض والسفر بقوله: فمن كان منكم مريضا أو على سفر ، وكما علق القصر بالسفر دون المرض بقوله: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" .

وأما الجمع فإنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأفعال فعلها في أول الوقت، وتارة يؤخرها، وكان التأخير أحب إليه إلا إذا شق عليه، فإذا اجتمعوا [ ص: 364 ] قدمها لمشقة التأخير عليهم، فتقديم الصلاة في أول الوقت وإن كان هو الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحة راجحة كان أفضل، كالإبراد بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رجا المتيمم الماء في آخر الوقت، أو رجا أن يصلي مستور العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعة ونحو ذلك، وهكذا الجمع. فالأصل وجوب كل صلاة في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يستحب فعلها في الوقت المشترك لدفع الحرج.

وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث المستحاضة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب لها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل وبين صلاتي الليل بغسل، وكان هذا أحب إليه من أن تصلي في الوقت المختص بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمع بوضوء أو غسل أفضل من التفريق عريانا، والجمع إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحده.

ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كل واحد وحده في بيته، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاته مع الجماعة جمعا أفضل من صلاته في الوقتين. ولهذا لو كان مقيما في المسجد لكان جمعه معهم على الصحيح أفضل من صلاته وحده في الوقتين.

التالي السابق


الخدمات العلمية