صفحة جزء
ومسألة القدر

مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس:

طائفة أنكرت أن الله تعالى خالق كل شيء، أو أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما أنكرت ذلك المعتزلة. وطائفة أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله، أو أن يكون له قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، أو أن يكون الله خلق شيئا لحكمة، كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذين ينتسب كثير منهم إلى السنة. فالكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر.

وأما الثاني: وهو أن ما كان فعل العبد أحد أسبابه، كالشبع والري الذي يكون بسبب الأكل، وزهوق النفس الذي يكون بسبب القتل، فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلا للعبد، والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه [تأثيرا، بل ما] تيقنوا أنه سبب، قالوا: إنه عنده لا به. وأما السلف والأئمة فلا يجعلون للعبد فعلا لذلك كفعله لما قام به من الحركات، ولا يمنعون أن يكون مشاركا أسبابه، وأن يكون الله جعل فعل العبد مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك. [ ص: 44 ]

وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون [التوبة: 120 - 121].

والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم فقال فيها: إلا كتب لهم ولم يقل: « إلا كتب لهم به عمل صالح» فإنها بنفسها عمل، بنفس كتابتها يتحصل بها المقصود، بخلاف الظمإ والنصب والجوع الحاصل بغير الجهاد، وبخلاف غيظ الكفار وبما نيل منهم; فإن هذه ليست نفس أفعالهم، وإنما هي حادثة عن أسباب منها أفعالهم، فلهذا قال تعالى: إلا كتب لهم به عمل صالح . فبين أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العبد يكتب لهم بها عمل; لأن أفعالهم كانت سببا فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص [ ص: 45 ] من أوزارهم شيء».

والأصل الثالث: أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض الناس، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء وقل المرغب فيه ارتفع سعره، وإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره. والقلة والكثرة قد لا تكون سببا من العباد، وقد يكون لسبب لا ظلم فيه، وقد يكون بسبب [فيه] ظلم، والله يجعل الرغبات في القلوب، فهو سبحانه كما جاء في الأثر: « قد تغلى الأسعار والأهواء غزار، وقد ترخص الأسعار والأهواء قفار».

التالي السابق


الخدمات العلمية