صفحة جزء
[ ص: 205 ] وأما التهم، وهو إذا ما قتل قتيل لا يعرف قاتله، أو سرق مال لا يعرف سارقه; فالحكم في هذا على وجه آخر. فإنه لو حلف المتهم وسيب، ضاعت الدماء والأموال، وكذلك لو كلف المدعي بالبينة، فإن القاتل لا يفعل ذلك غالبا قدام أحد.

ولو كان كل من اتهمه صاحب الدم والمال يضرب، لكان يضرب الصالحون، وأهل البر والتقوى، والعلماء والمشايخ، والقضاة، والأمراء، وكل أحد بمجرد دعوى المتهم. وهذا ظلم وعدوان، فإن الظلم لا يزال بالظلم.

بل الاعتدال في ذلك: أن يحبس المتهم الذي لم تعلم براءته، فقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة.

وهذا حديث ثابت، وقد عمل به الأئمة وأتباعهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم -رضي الله عنهم-. [ ص: 206 ]

ثم ينظر في المتهم، فإن عرف قبل ذلك بسرقة، أو قامت أمارات تقتضي أنه قد سرق فقد رخص كثير من العلماء في ضربه حتى يعترف بالسرقة.

وقد روى البخاري في « صحيحه» أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم إلى الزبير بن العوام رجلا ليعاقبه على مال اتهم بكتمانه، حتى اعترف بمكانه.

وإن شهد الناس لذلك المتهم أنه من أهل الثقة والأمانة، لم يجز أن تباح عقوبته بلا سبب يبيح ذلك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ادرأوا الحدود بالشبهات، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». [ ص: 207 ]

وأكثر ما يفعل بمن يكون هكذا أن يضمن عليه، ويحلف الأيمان الشرعية على نفي ما ادعي به عليه.

وقد روى أبو داود في « سننه» أن قوما جاؤوا إلى النعمان بن بشير فقالوا: إن هذا سرق لنا مالا فاضربه حتى يعترف به، فقال: إن شئتم ضربته، فإن ظهر مالكم عنده وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهره. فقالوا: هذا قضاؤك؟ قال: هذا قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا عرف أن الرجل عنده مال يجب عليه أداؤه، إما دين يقدر على وفائه وقد امتنع من الوفاء، وإما وديعة أو عارية، وإما مال سرقه، أو اغتصبه، أو خانه من مال السلطان الذي يجب عليه دفعه، أو من مال اليتيم، أو من مال موكله أو شريكه، أو نحو ذلك فإذا عرف أنه قادر على أداء المال، وهو ممتنع، فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤديه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لي الواجد يحل عرضه وعقوبته». [ ص: 208 ]

اللي: المطل، والواجد: القادر.

وقال ......* * *

... [للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك] هم الصادقون [الحشر: 8] وهؤلاء المهاجرون.

ثم قال تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر: 9] وهؤلاء الأنصار.

ثم قال تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [الحشر: 10]. [ ص: 209 ]

وهذا الصنف الثالث إلى يوم القيامة، وصفهم بالاستغفار للسلف وسؤال الله ألا يجعل في قلوبهم غلا لهم، وهؤلاء يلعنون السلف ولا يستغفرون لهم، ولا يطلبون من الله منع الغل، بل يسعون في قوة الغل والبغض والعداوة لخيار أهل الإيمان.

ثم إن هؤلاء يخونون ولاة أمور المسلمين في الجهاد وحفظ البلاد، وهم أعداؤهم عداوة دينية; إذ كانوا يعادون خيار الأمة، وخيار ولاة أمورها الخلفاء الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

والذي ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا أظهر موالاة أهل البيت; ليتوسل بذلك إلى إفساد دين الإسلام، كما فعل بولص مع النصارى. ولهذا كانت الرافضة ملجأ لعامة الزنادقة القرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، ونحوهم.

فلا يصلح لولاة الأمور أن يولوهم على المسلمين،
ولا استخدامهم في عسكر المسلمين، بل إذا استبدل بهم من هو من أهل السنة والجماعة كان أصلح للمسلمين في دينهم ودنياهم.

[و] إذا أظهروا التوبة والبراءة من الرفض، لم يوثق بمجرد ذلك، بل يحتاط في أمرهم، فيفرق جموعهم، ويسكنون في مواضع متفرقة [ ص: 210 ] بين أهل السنة، بحيث لو أظهروا ما في أنفسهم عرفوا، ولا يتمكنون من التعاون على الإثم والعدوان. فإنهم إذا كان لهم قوة وعدد في مكان، كانوا عدوا للمسلمين مجتمعين، يعادونهم أعظم من عداوة التتر بكثير.

ولهذا يخبر أهل الشرق القادمون من تلك البلاد: أن الرافضة أضر على المسلمين من التتر، وقد أفسدوا ملك التتر وميلوه إليهم، وهم يختارون دولته وظهوره، فكيف يجوز أن يكون في عسكر المسلمين من هو أشد عداوة وضررا على المسلمين من التتر؟!

والتتري إذا عرف الإسلام ودعي إليه أحبه واستجاب إليه، إذ ليس له دين يقاتل عليه ينافي الإسلام، وإنما يقاتل على الملك.

وأما الرافضة فإن من دينهم السعي في إفساد جماعة المسلمين وولاة أمورهم، ومعاونة الكفار عليهم; لأنهم يرون أهل الجماعة كفارا مرتدين، والكافر المرتد أسوأ حالا من الكافر الأصلي، ولأنهم يرجون في دولة الكفار ظهور كلمتهم وقيام دعوتهم ما لا يرجونه في دولة المسلمين، فهم أبدا يختارون ظهور كلمة الكفار على كلمة أهل السنة والجماعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: « يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان». [ ص: 211 ]

وهذه سواحل المسلمين كانت مع المسلمين أكثر من ثلاثمائة سنة، وإنما تسلمها النصارى والفرنج من الرافضة، وصارت بقايا الرافضة فيها مع النصارى.

وأما دولة التتر; فقد علم الله أن الذي دخل مع هولاكو ملك التتر، وعاونه على سفك دماء المسلمين، وزوال دولتهم، وسبي حريمهم، وخراب ديارهم، وأخذ أموالهم فهم الرافضة، وهم دائما مع اليهود والنصارى أو المشركين.

فكيف مثل هؤلاء ولاة على المسلمين أو أجنادا، لهم مقدم منهم في عسكر المسلمين، يأكلون أموال بيت المال، منفردين في بلاد عن جماعة المسلمين؟!

فمن أعظم النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم دفع ضرر هؤلاء عنهم. والله تعالى أعلم.

تمت.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية