صفحة جزء
114 - ( فصل )

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه : واجبات الشريعة - التي هي حق الله تعالى - ثلاثة [ ص: 229 ] أقسام : عبادات ، كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، وعقوبات : إما مقدورة ، وإما مفوضة ، وكفارات .

وكل واحد من أقسام الواجبات : ينقسم إلى بدني ، وإلى مالي ، وإلى مركب منهما . فالعبادات البدنية : كالصلاة والصيام ، والمالية : كالزكاة ، والمركبة : كالحج . والكفارات المالية : كالإطعام ، والبدنية : كالصيام ، والمركبة : كالهدي يذبح ويقسم .

والعقوبات البدنية : كالقتل والقطع ، والمالية : كإتلاف أوعية الخمر ، والمركبة : كجلد السارق من غير حرز ، وتضعيف الغرم عليه ، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم .

والعقوبات البدنية : تارة تكون جزاء على ما مضى ، كقطع السارق ، وتارة تكون دفعا عن الفساد المستقبل ، وتارة تكون مركبة ، كقتل القاتل .

وكذلك المالية ، فإنها منها ما هو من باب إزالة المنكر ، وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف ، وإلى تغيير ، وإلى تمليك الغير . فالأول : المنكرات من الأعيان والصور ، يجوز إتلاف محلها تبعا لها ، مثل الأصنام المعبودة من دون الله ، لما كانت صورها منكرة : جاز إتلاف مادتها ، فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك : جاز تكسيرها وتحريقها ، وكذلك آلات الملاهي - كالطنبور - يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء ، وهو مذهب مالك ، وأشهر الروايتين عن أحمد .

قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل كسر عودا كان مع أمة لإنسان ، فهل يغرمه ، أو يصلحه ؟ قال : لا أرى عليه بأسا أن يكسره ، ولا يغرمه ولا يصلحه ، قيل له : فطاعتها ؟ قال : ليس لها طاعة في هذا .

وقال أبو داود : سمعت أحمد يسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج ، فنهاهم فلم ينتهوا ، فأخذ الشطرنج فرمى به ؟ قال : قد أحسن . قيل : فليس عليه شيء ؟ قال : لا ، قيل له : وكذلك إن كسر عودا أو طنبورا ؟ قال : نعم .

وقال عبد الله : سمعت أبي - في رجل يرى مثل الطنبور أو العود ، أو الطبل ، أو ما أشبه هذا - ما يصنع به ؟ قال : إذا كان مكشوفا فاكسره .

وقال يوسف بن موسى ، وأحمد بن الحسن : إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يرى الطنبور والمنكر : أيكسره ؟ قال : لا بأس .

وقال أبو الصقر : سألت أبا عبد الله عن رجل رأى عودا أو طنبورا فكسره ، ما عليه ؟ قال : قد أحسن ، وليس عليه في كسره شيء . [ ص: 230 ]

وقال جعفر بن محمد : سألت أبا عبد الله عمن كسر الطنبور والعود ؟ فلم ير عليه شيئا .

وقال إسحاق بن إبراهيم : سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلا مغطى : أيكسره ؟ قال إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره .

وقال أيضا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطنبور ، أو الطبل : عليه في ذلك شيء ؟ قال : يكسر هذا كله ، وليس يلزمه شيء .

وقال المروذي : سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي ؟ قال : يكسر أيضا ، قلت : أمر في السوق ، فأرى الطنبور يباع : أأكسره ؟ قال : ما أراك تقوى ، إن قويت - أي فافعل - قلت : أدعى لغسل الميت ، فأسمع صوت الطبل ؟ قال : إن قدرت على كسره ، وإلا فاخرج .

وقال : في رواية إسحاق بن منصور - في الرجل يرى الطنبور والطبل والقنينة - قال : فإذا كان طنبور أو طبل ، وفي القنينة مسكر : اكسره .

وفي " مسائل صالح " قال أبي : يقتل الخنزير ، ويفسد الخمر ، ويكسر الصليب . وهذا قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وإسحاق بن راهويه ، وأهل الظاهر ، وطائفة من أهل الحديث ، وجماعة من السلف ، وهو قول قضاة العدل .

قال أبو حصين : كسر رجل طنبورا ، فخاصمه إلى شريح ، فلم يضمنه شيئا .

وقال أصحاب الشافعي : يضمن ما بينه وبين الحد المبطل للصورة ، وما دون ذلك : فغير مضمون ، لأنه مستحق الإزالة ، وما فوقه فقابل للتمول : لتأتي الانتفاع به ، والمنكر إنما هو الهيئة المخصوصة ، فيزول بزوالها ; ولهذا أوجبنا الضمان في الصائل بما زاد عن قدر الحاجة في الدفع ، وكذا الحكم في البغاة في اتباع مدبرهم ، والإجهاز على جريحهم ، والميتة : في حال المخمصة ، لا يزاد على قدر الحاجة في ذلك كله .

قال أصحاب القول الأول : قد أخبر الله سبحانه عن كليمه موسى عليه السلام : أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ، ونسفه في اليم ، وكان من ذهب وفضة ، وذلك محق له بالكلية ، وقال عن خليله إبراهيم : { فجعلهم جذاذا } وهو الفتات ، وذلك نص في الاستئصال .

وروى الإمام أحمد في مسنده " والطبراني في " المعجم " من حديث الفرج بن فضالة عن علي بن يزيد [ ص: 231 ] عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله بعثني رحمة للعالمين ، وهدى للعالمين ، وأمرني ربي بمحق المعازف والمزامير والأوثان ، والصلب وأمر الجاهلية } لفظ الطبراني . والفرج حمصي ، قال أحمد في رواية : هو ثقة .

وقال يحيى : ليس به بأس ، وتكلم فيه آخرون ، وعلي بن يزيد : دمشقي ضعفه غير واحد .

وقال أبو مسهر - وهو بلديه - لا أعلم به إلا خيرا ، وهو أعرف به ، " والمحق " نهاية الإتلاف . وأيضا : فالقياس يقتضي ذلك ، لأن محل الضمان : هو ما قبل المعاوضة ، وما نحن فيه لا يقبلها ألبتة ، فلا يكون مضمونا ، وإنما قلنا : لا يقبل المعاوضة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام } وهذا نص ، وقال : { إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه } والملاهي محرمات بالنص ، فحرم بيعها .

وأما قبول ما فوق الحد المبطل للصورة لجعله آنية : فلا يثبت به وجوب الضمان ، لسقوط حرمته ، حيث صار جزء المحرم : أو ظرفا له ، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من كسر دنان الخمر ، وشق ظروفها ، فلا ريب أن للمجاورة تأثيرا في الامتهان والإكرام .

وقد قال تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } .

و { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم : يكونون بين المشركين ، يؤاكلونهم ويشاربونهم ؟ فقال : هم منهم } هذا لفظه أو معناه . [ ص: 232 ]

فإذا كان هذا في المجاورة المنفصلة فكيف بالمجاورة التي صارت جزءا من أجزاء المحرم ، أو لصيقة به ؟ وتأثير الجوار ثابت عقلا وشرعا وعرفا . والمقصود : أن إتلاف المال - على وجه التعزير والعقوبة - ليس بمنسوخ .

وقد قال أبو الهياج الأسدي : قال لي علي بن أبي طالب : { ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا أدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته } رواه مسلم ، وهذا يدل على طمس الصور في أي شيء كانت ، وهدم القبور المشرفة ، وإن كان من حجارة أو آجر أو لبن .

قال المروذي : قلت لأحمد : الرجل يكتري البيت ، فيرى فيه تصاوير ، ترى أن يحكها ؟ قال : نعم ، وحجته : هذا الحديث الصحيح . وروى البخاري في صحيحه " عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت } . وفي " الصحيحين " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة } . وفي " صحيح البخاري " عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان لا يترك [ ص: 233 ] في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه } . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية } .

فهؤلاء رسل الله ، صلوات الله وسلامه عليهم - إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم - كلهم على محق المحرم وإتلافه بالكلية ، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم ، فلا التفات إلى من خالف ذلك .

وقد قال المروذي : قلت لأبي عبد الله : دفع إلي إبريق فضة لأبيعه ، أترى أن أكسره ، أو أبيعه كما هو ؟ قال : اكسره .

وقال : قيل لأبي عبد الله : إن رجلا دعا قوما ، فجيء بطست فضة ، وإبريق فضة ، فكسره ، فأعجب أبا عبد الله كسره . وقال : بعثني أبو عبد الله إلى رجل بشيء ، فدخلت عليه ، فأتي بمكحلة رأسها مفضض ، فقطعتها ، فأعجبه ذلك ، وتبسم . ووجه ذلك : أن الصياغة محرمة ، فلا قيمة لها ولا حرمة .

وأيضا : فتعطيل هذه الهيئة مطلوب ، فهو بذلك محسن ، وما على المحسنين من سبيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية