صفحة جزء
115 - ( فصل )

وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها .

قال المروذي : قلت لأحمد : استعرت كتابا فيه أشياء رديئة ، ترى أن أخرقه أو أحرقه ؟ قال : نعم .

وقد { رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة ، وأعجبه موافقته للقرآن ، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه } . [ ص: 234 ] فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بعضها ما في القرآن والسنة ؟ والله المستعان .

وقد " أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كتب عنه شيئا غير القرآن أن يمحوه " ثم " أذن في كتابة سنته " ولم يأذن في غير ذلك .

وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة : غير مأذون فيها ، بل مأذون في محقها وإتلافها ، وما على الأمة أضر منها ، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان ، لما خافوا على الأمة من الاختلاف ، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة :

وقال الخلال : أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم قال : قال أبو عبد الله : أهلكهم وضع الكتب ، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الكلام .

وقال : أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقري قال : سمعت أبا عبد الله - وسئل عن الرأي ؟ - فرفع صوته ، قال : لا يثبت شيء من الرأي ، عليكم بالقرآن والحديث والآثار .

وقال في رواية ابن مشيش : إن أبا عبد الله سأله رجل ، فقال : أكتب الرأي ؟ فقال : ما تصنع بالرأي ؟ عليك بالسنن فتعلمها وعليك بالأحاديث المعروفة .

وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : هذه الكتب بدعة وضعها .

وقال إسحاق بن منصور : سمعت أبا عبد الله يقول : لا يعجبني شيء من وضع الكتب ، من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع .

وقال المروذي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا حماد بن زيد ، قال : قال لي ابن عون : يا حماد ، هذه الكتب تضل .

وقال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم ، فقال : وأي الناس لا يخطئ ؟ ولا سيما من وضع الكتب ، فهو أكثر خطأ .

وقال إسحاق : سمعت أبا عبد الله - وسأله قوم من أردبيل عن رجل يقال له : عبد الرحيم ، وضع كتابا - فقال أبو عبد الله : هل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذا ؟ أو أحد من [ ص: 235 ] التابعين ؟ وأغلظ وشدد في أمره ، وقال : انهوا الناس عنه ، وعليكم بالحديث . وقال في رواية أبي الحارث : ما كتبت من هذه الكتب الموضوعة شيئا قط .

وقال محمد بن زيد المستملي : سأل أحمد رجل ، فقال : أكتب كتب الرأي ؟ قال : لا تفعل ، عليك بالحديث والآثار ، فقال له السائل : إن ابن المبارك قد كتبها ، فقال له أحمد : ابن المبارك لم ينزل من السماء ، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق .

وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي - وذكر وضع الكتب - فقال : أكرهها ، هذا أبو فلان وضع كتابا ، فجاءه أبو فلان فوضع كتابا ، وجاء فلان فوضع كتابا ، فهذا لا انقضاء له ، كلما جاء رجل وضع كتابا ، وهذه الكتب وضعها بدعة ، كلما جاء رجل وضع كتابا ، وترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ليس إلا الاتباع والسنن ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وعاب وضع الكتب وكرهه كراهة شديدة .

وقال المروذي في موضع آخر : قال أبو عبد الله : يضعون البدع في كتبهم ، إنما أحذر عنها أشد التحذير ، قلت : إنهم يحتجون بمالك : أنه وضع كتابا ؟ فقال أبو عبد الله : هذا ابن عون والتيمي ويونس وأيوب : هل وضعوا كتابا ؟ هل كان في الدنيا مثل هؤلاء ؟ وكان ابن سيرين وأصحابه لا يكتبون الحديث ، فكيف الرأي ؟ وكلام أحمد في هذا كثير جدا ، قد ذكره الخلال في كتاب العلم .

ومسألة وضع الكتب : فيها تفصيل ، ليس هذا موضعه ، وإنما كره أحمد ذلك ، ومنع منه : لما فيه من الاشتغال به ، والإعراض عن القرآن والسنة ، فإذا كانت الكتب متضمنة لنصر القرآن والسنة والذب عنهما ، وإبطال للآراء والمذاهب المخالفة لهما فلا بأس بها ، وقد تكون واجبة ومستحبة ومباحة ، بحسب اقتضاء الحال ، والله أعلم .

والمقصود : أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها ، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف ، وإتلاف آنية الخمر ، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه ، ولا ضمان فيها ، كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها .

قال المروذي : قلت لأبي عبد الله : لو رأيت مسكرا في قنينة أو قربة تكسر ، أو تصب ؟ قال : تكسر .

وقال أبو طالب : قلت نمر على المسكر القليل أو الكثير : أكسره ؟ قال : نعم تكسره .

قال محمد بن حرب : قلت لأبي عبد الله : ألقى رجلا ومعه قربة مغطاة ؟ قال : بريبة ؟ قلت : نعم ، قال تكسرها . [ ص: 236 ]

وقال في رواية ابن منصور - في الرجل يرى الطنبور والطبل مغطى والقنينة - إذا كان ، يعني أنه يتبين أنه طنبور أو طبل ، أو فيها مسكر : كسره .

وقد روى عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : { كان عبد الله بن مسعود يحلف بالله أن التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين حرمت الخمر - أن تكسر دنانها ، وأن تكفأ : ثمر التمر والزبيب } رواه الدارقطني في " السنن " بإسناد صحيح .

وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة { أنه قال : يا نبي الله ، إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري ، قال : أهرق الخمر ، واكسر الدنان } رواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم عن يحيى بن عباد عنه .

وفي " مسند أحمد " من حديث أبي طعمة قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : { لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها } الحديث . في " المسند "

أيضا عن ضمرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية ، فأتيته بها ، فأرسل بها فأرهفت ، ثم أعطانيها ، وقال : اغد علي بها ، ففعلت ، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق خمر ، قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني ، فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ، وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها ، فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته } .

وفي " الصحيحين " عن أنس بن مالك قال : " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبا طلحة [ ص: 237 ] وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وتمر ، فأتاهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرة فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا ، فضربتها بأسفله حتى تكسرت " .

وفي " سنن النسائي وأبي داود " عن أبي هريرة ، قال : " علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها ، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دن ، فلما كان المساء جئته أحملها إليه - فذكر الحديث - ثم قال : فرفعتها إليه ، فإذا هو ينش ، فقال : خذ هذه فاضرب بها الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر } .

التالي السابق


الخدمات العلمية