صفحة جزء
124 - ( فصل )

[ ص: 252 ] ومن مواضع القرعة : إذا أعتق عبدا من عبيده ، أو طلق امرأة من نسائه ، لا يدري أيتهن هي ؟ فقال أحمد في رواية الميموني : إن مات قبل أن يقرع بينهن يقوم وليه في هذا مقامه ، يقرع بينهن ، فأيتهن وقعت عليها القرعة لزمته .

وقال أبو بكر بن محمد عن أبيه : سألت أبا عبد الله : عن رجل أعتق أحد غلاميه في صحته ، ثم مات المولى ، ولم يدر الورثة أيهما أعتق ، قال : يقرع بينهما .

وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال في القرعة : إذا قال : أحد غلامي حر ، ثم مات قبل أن يعلم : يقرع بينهما ، فأيهما وقعت عليه القرعة عتق ، كذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أعتق ستة أعبد له .

وقال مهنا : سألت أحمد عن رجل قال لامرأتين له : إحداكما طالق ، أو لعبدين له : أحدكما حر ، قال : قد اختلفوا فيه ، قلت : ترى أن يقرع بينهما ؟ قال : نعم ، قلت : وتجيز القرعة في الطلاق ؟ قال : نعم .

وقال في رواية الميموني - فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن ، ولم يدر : يقرع بينهن ، كذلك في الأعبد ، فإن أقرع بينهن ، فوقعت القرعة على واحدة ، ثم ذكر التي طلق : رجعت هذه ، ويقع الطلاق على التي ذكر ، فإن تزوجت فذاك شيء قد مر ، وإن كان الحاكم قد أقرع بينهن لم ترجع إليه .

وقال أبو الحارث عن أحمد - في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ، ولم تكن له نية في واحدة بعينها - يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة ، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ثم نسيها .

قال : والقرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء بها القرآن .

وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يقرع بينهن ، ولكن إذا كان الطلاق لواحدة لا بعينها ولا نواها ، فإنه يختار صرف الطلاق إلى أيتهن شاء ، وإن كان الطلاق لواحدة بعينها ونسيها ، فإنه يتوقف فيهما حتى يتذكر ، ولا يقرع ، ولا يختار صرف الطلاق إلى واحدة منهما .

وقال مالك : يقع الطلاق على الجميع . والقول بالقرعة : مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وكيع : سمعت عبد الله قال : سألت أبا جعفر عن رجل له أربع نسوة ، فطلق إحداهن ، لا يدري أيتهن طلق ، فقال : علي يقرع بينهن .

فالأقوال التي قيل بها في هذه المسألة لا تخرج عن أربعة : ثلاثة قيل بها ، وواحد لا يعلم به قائل .

أحدها : أنه يعين في المبهمة ، ويقف في حق المنسية عن الجميع ، فينفق عليهن ويكسوهن ، ويعتزلهن إلى أن يفرق بينهما الموت أو يتذكر ، وهذا في غاية الحرج ، والإضرار به وبالزوجات ، فينفيه . [ ص: 253 ] قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ولا ضرار } فأي حرج وضرر وإضرار أكثر من ذلك ؟

الثاني : أن يطلق عليه الجميع ، مع الجزم بأنه إنما طلق واحدة ، لا الجميع ، فإيقاع الطلاق بالجميع - مع القطع بأنه لم يطلق الجميع - ترده أصول الشرع وأدلته .

الثالث : أنه لا يقع الطلاق بواحدة منهن ; لأن النكاح ثابت بيقين ، وكل واحدة منهن مشكوك فيها : هل هي المطلقة أم لا ؟ فلا تطلق بالشك ، ولا يمكن إيقاع الطلاق بواحدة غير معينة ، وليس البعض أولى بأن يوقع عليها الطلاق من البعض ، والقرعة قد تخرج غير المطلقة ، فإنها كما يجوز أن تقع على المطلقة يجوز أن تقع على غيرها ، فإذا أخطأت المطلقة وأصابت غيرها أفضى ذلك إلى تحريم من هي زوجة ، وحل من هي أجنبية .

وإذا بطلت هذه الأقسام كلها تعين هذا التقرير ، وهو بقاء النكاح في حق كل واحدة منهن حتى يتبين أنها المطلقة ، وإذا كان النكاح باقيا فيها ، فأحكامه مترتبة عليه ، وأما بقاء النكاح وتحريم الوطء دائما : فلا وجه له .

فهذا القول : والقول بوقوع الطلاق على الجميع : متقابلان ، وأدلتهما تكاد أن تتكافأ ، لا احتياط في إيقاع الطلاق بالجميع ، فإنه يتضمن تحريم الفرج على الزوج ، وإباحته بالشك لغيره .

قال المقرعون : قد جعل الله سبحانه القرعة طريقا إلى الحكم الشرعي في كتابه ، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها ، وحكم بها علي بن أبي طالب في المسألة بعينها ، وكل قول غير القول بها : فإن أصول الشرع وقواعده ترده .

أما وقوع الطلاق على الجميع - مع العلم بأنه إنما أوقعه على واحدة - فتطليق لغير المطلقة ، وهو نظير ما لو طلق طلقة واحدة أو ثلاثا ، حيث يجوز أن يجعل ثلاثا ، فإنه يجوز أن يكون قد استوفى عدد الطلاق ، وفي مسألتنا : هو جازم بأنه لم يستوف عدد الطلقات ، بل كل واحدة منهن قد شك : هل طلقها أم لا ؟ وغايته : أنه قد تيقن تحريما في واحدة لا بعينها ، فكيف يحرم عليه غيرها ؟ فإن قيل : قد اشتبهت المحللة بالمحرمة ، فحرمتا معا ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، وميتة بمذكاة . قيل : هاهنا معنا أصل يرجع إليه ، وهو التحريم الأصلي ، وقد وقع الشك في سبب الحل ، فلا يرفع التحريم الأصلي إلا بالنكاح ، ثم وقع في عين غير معينة ، ومعنا أصل الحل المستصحب ، فلا يمكن تعميم التحريم ، ولا إلغاؤه بالكلية ، ولم يبق طريق إلى تعيين محله إلا بالقرعة ، فتعينت طريقا .

قالوا : وأيضا فإن الطلاق قد وقع على واحدة منهن معينة ; لامتناع وقوعه في غير معين ، فلم [ ص: 254 ] يملك المطلق صرفه إلى أيتهن شاء ، لكن التعيين غير معلوم لنا ، وهو معلوم عند الله ، وليس لنا طريق إلى معرفته ، فتعينت القرعة .

يوضحه : أن التعيين من المطلق ليس إنشاء للطلاق في المعينة ، فإنه لو كان إنشاء لم يكن المتقدم طلاقا ، ولكان الجميع حلالا له ، ولما أمر بأن ينشئ الطلاق ، ولا افتقر إلى لفظ يقع به ، وإذا لم يكن إنشاء فهو إخبار منه بأن هذه المعينة هي التي أوقعت عليها الطلاق ، وهذا خبر غير مطابق ، بل هو خلاف الواقع ، وحاصله : أن التعيين إما أن يكون إنشاء للطلاق ، أو إخبارا ، ولا يصلح لواحد منهما .

فإن قيل : بل هو إنشاء عندنا في المبهمة ، وأما المنسية : فهو واقع من حين طلق . قيل : لا يصح جعله إنشاء للطلاق ، لأن الطلاق إما أن يكون قد وقع بإحداهن أو لا ، فإن لم يقع لم يلزمه أن ينشئه ، وإن كان قد وقع استحال إنشاؤه أيضا ، لأنه تحصيل للحاصل .

فإن قيل : فهذا يلزمكم أيضا ، لأنكم تقولون : إن الطلاق يقع من حين الإقراع ، قيل : بل الطلاق عندنا في الموضعين واقع من حين الإيقاع .

قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب - في رجل له أربع نسوة ، فطلق إحداهن وتزوج أخرى ، ومات ، ولم يدر أي الأربع طلق - فلهذه الأخيرة : ربع الثمن ، ثم يقرع بين الأربع ، فأيتهن قرعت أخرجت ، وورث البواقي .

قال القاضي : فقد حكم بصحة نكاح الخامسة قبل تعيين المطلقة ، قال : وهذا يدل على ، وقوع الطلاق من حين الإيقاع ، ولو كان من حين التعيين لم يصح نكاح الخامسة .

فإن قيل : هذا بعينه يرد عليكم في التعيين بالقرعة ، والجواب حينئذ واحد . قيل : الفرق بين التعيين ظاهر ، فإن تعيين المكلف تابع لاختياره وإرادته ، وتعين القرعة إلى الله عز وجل ، والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعينه له القضاء والقدر ، شاء أم أبى . وهذا هو سر المسألة وفقهها ، فإن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع فوض إلى القضاء والقدر ، وصار الحكم به شرعيا قدريا : شرعيا في فعل القرعة ، وقدريا : فيما تخرج به ، وذلك إلى الله ، لا إلى المكلف . فلا أحسن من هذا ولا أبلغ في موافقته شرع الله وقدره . وأيضا : فإنه لو طلق واحدة منهن ، ثم أشكلت عليه ، لم يكن له أن يعين المطلقة باختياره ، فهكذا إذا طلق واحدة لا بعينها .

فإن قيل : الفرق ظاهر ، وهو أن الطلاق هاهنا قد وقع على واحدة بعينها ، فإذا أشكلت لم يجز [ ص: 255 ] أن يعين من تلقاء نفسه ، لأنه لا يأمن أن يعين غير التي وقع عليها الطلاق ، ويستديم نكاح التي طلقها ، وليس كذلك في مسألتنا ، فإن الطلاق وقع على إحداهن غير معينة ، فليس في تعيينه إيقاع للطلاق على من لم يقع بها ، وصرفه عمن وقع بها .

قيل : إحداهما محرمة عليه في المسيس ، ولا يدري عينها ، فإذا لم يملك التعيين بلا سبب في إحدى الصورتين ، لم يملكه في الأخرى ، وهذا أيضا سر المسألة وفقهها ، فإن التعيين بالقرعة تعيين بسبب قد نصبه الله ورسوله سببا للتعيين عند عدم غيره ، والتعيين بالاختيار تعيين بلا سبب ، إذ هذا فرض المسألة ، حيث انتفت أسباب التعيين وعلاماته . ولا يخفى أن التعيين بالسبب الذي نصبه الشرع له أولى من التعين الذي لا سبب له .

فإن قيل : المنسية والمشتبهة يجوز أن تذكر ، وتعلم عينها بزوال ، الاشتباه ; فلهذا لم يملك صرف الطلاق فيها إلى من أراد ، بخلاف المبهمة فإنه لا يرجى ذلك فيها .

قيل : وكذلك المنسية والمشكلة إذا عدم أسباب العلم بتعيينها ، فإنه يصير في إبقائها إضرار به وبها ، ووقف للأحكام ، وجعل المرأة معلقة باقي عمرها ، لا ذات زوج ولا مطلقة وهذا لا عهد لنا به في الشريعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية