صفحة جزء
أما بعد : وسألت عن الحاكم ، أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق ، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار ، حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين ، إذا ظهر منه أنه مبطل وربما ضربه ، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال .

فهل ذلك صواب أم خطأ ؟ فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع ، جليلة القدر ، إن أهملها الحاكم أو الوالي أضاع حقا كثيرا ، وأقام باطلا كثيرا ، وإن توسع فيها وجعل معوله عليها ، دون الأوضاع الشرعية ، وقع في أنواع من الظلم والفساد وقد سئل أبو الوفاء ابن عقيل عن هذه المسألة ، فقال : ليس ذلك حكما بالفراسة ، بل هو حكم بالأمارات . وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك ، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى التوصل بالإقرار بما يراه الحاكم وذلك مستند إلى قوله تعالى : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } ولذا حكمنا بعقد الأزج ، وكثرة الخشب في [ ص: 4 ] الحائط ، ومعاقد القمط في الخص ، وما يخص المرأة والرجل في الدعاوى .

وفي مسألة العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد ، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار والقدوم ، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر ، ونحو ذلك ، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات ؟ وكذلك الحكم بالقافة والنظر في أمر الخنثى ; والأمارات الدالة على أحد حاليه . والنظر في أمارات جهة القبلة ، واللوث في القسامة . انتهى .

فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ، ودلائل الحال ، ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية ، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام : أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها . وحكم بما يعلم الناس بطلانه لا يشكون فيه ، اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله . فهاهنا نوعان من الفقه ، لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ، يميز به بين الصادق والكاذب ، والمحق والمبطل . ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع . ومن له ذوق في الشريعة ، واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ، ومجيئها بغاية العدل ، الذي يسع الخلائق ، وأنه لا عدل فوق عدلها ، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح : تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها ، وفرع من فروعها ، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمه فيها : لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة .

فإن السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهي من الشريعة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .

ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم للمرأتين اللتين ادعتا الولد . فحكم به داود [ ص: 5 ] صلى الله عليه وسلم للكبرى فقال سليمان " ائتوني بالسكين أشقه بينكما " فسمحت الكبرى بذلك فقالت الصغرى : " لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها " فقضى به للصغرى ، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة ، فاستدل برضا الكبرى بذلك ، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها ، وبشفقة الصغرى عليه ، وامتناعها من الرضا بذلك : على أنها هي أمه ، وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم ، وقويت هذه القرينة عنده ، حتى قدمها على إقرارها ، فإنه حكم به لها مع قولها " هو ابنها " .

وهذا هو الحق ، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدا .

ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه لانعقاد سبب التهمة واعتمادا على قرينة الحال في قصده تخصيصه .

ومن تراجم قضاة السنة والحديث على هذا الحديث ترجمة أبي عبد الرحمن النسائي في سننه " قال : " التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل كذا ; ليستبين به الحق " .

ثم ترجم عليه ترجمة أخرى أحسن من هذه ، فقال : " الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه ، إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به " فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله .

ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال : " نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله ، أو أجل منه " فهذه ثلاث قواعد ورابعة : وهي ما نحن فيه وهي الحكم بالقرائن وشواهد الحال .

وخامسة : وهي أنه لم يجعل الولد لهما ، كما يقوله أبو حنيفة ، فهذه خمس سنن في هذا الحديث .

ومن ذلك : قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته ، ولم ينكر عليه ، ولم يعبه بل حكاها مقررا لها ، فقال تعالى : { واستبقا الباب ، وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من [ ص: 6 ] دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب .

وهذا لوث في أحد المتنازعين ، يبين به أولاهما بالحق .

وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر ، وأمر بالحكم بموجبه .

{ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة ، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ، ويستحقون دم القتيل } ، فهذا لوث في الدماء ، والذي في سورة المائدة لوث في الأموال ، والذي في سورة يوسف لوث في الدعوى في العرض ونحوه .

وهذا حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم برجم المرأة التي ظهر بها الحبل ، ولا زوج لها ولا سيد .

وذهب إليه مالك وأحمد - في أصح روايتيه - اعتمادا على القرينة الظاهرة .

وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف - بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل ، أو قيئه خمرا ، اعتمادا على القرينة الظاهرة .

ولم تزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم ، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ، وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه ، وآخر قائما على رأسه بالسكين : أنه قتله ؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته ، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتله ، ثم قال مالك وأحمد : يقتل به .

وقال الشافعي : يقضى عليه بديته وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس - وليس ذلك عادته - وآخر هاربا قدامه بيده [ ص: 7 ] عمامة ، وعلى رأسه عمامة : حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف .

وهل القضاء بالنكول إلا رجوع إلى مجرد القرينة الظاهرة ، التي علمنا بها ظاهرا أنه لولا صدق المدعي لدفع المدعى عليه دعواه باليمين ؟ فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة ، دالة على صدق المدعي ، فقدمت على أصل براءة الذمة .

وكثير من القرائن والأمارات أقوى من النكول ، والحس شاهد بذلك ، فكيف يسوغ تعطيل شهادتها ؟ ومن ذلك : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه ، وادعى نفاده فقال له : العهد قريب ، والمال أكبر من ذلك } .

فهاتان قرينتان في غاية القوة : كثرة المال ، وقصر المدة التي ينفق كله فيها .

وشرح ذلك : { أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير من المدينة ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ، غير الحلقة والسلاح ، وكان لابن أبي الحقيق مال عظيم - بلغ مسك ثور من ذهب وحلي - فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - وكان بعضها عنوة وبعضها صلحا - ففتح أحد جانبيها صلحا . وتحصن أهل الجانب الآخر . فحصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما ، فسألوه الصلح ، وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل فأكلمك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة . وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة ، إلا ثوبا على ظهر إنسان . فقال رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك } .

قال حماد بن سلمة : أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم ، فغلب على الزرع والأرض والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ، ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، قال العهد قريب ، والمال أكثر [ ص: 8 ] من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير ، فمسه بعذاب ، وقد كان قبل ذلك دخل خربة ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا . فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة . فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق - وأحدهما زوج صفية - بالنكث الذي نكثوا } .

ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم ، وجواز الصلح على الشرط ، وانتقاض العهد إذا خالفوا ما شرط عليهم وفيه من الحكم : إخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم ، وإلا فهو سبحانه قادر على أن يطلع رسوله على الكنز فيأخذه عنوة .

ولكن كان في أخذه على هذه الحال من الحكم والفوائد ، وإخزاء الكفرة أنفسهم بأيديهم ما فيه ، والله أعلم .

وفي بعض طرق هذه القصة { أن ابن عم كنانة اعترف بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فعذبه } .

وفي ذلك دليل على صحة إقرار المكره إذا ظهر معه المال ، وأنه إذا عوقب على أن يقر بالمال المسروق ، فأقر به وظهر عنده : قطعت يده ، وهذا هو الصواب بلا ريب .

وليس هذا إقامة للحد بالإقرار الذي أكره عليه ، ولكن بوجود المال المسروق معه الذي توصل إليه بالإقرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية