صفحة جزء
13 - ( فصل )

ومن الفراسة الصادقة : فراسة خزيمة بن ثابت ، حين قدم وشهد على عقد التبايع بين الأعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يكن حاضرا ، تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يخبر به .

ومنها : فراسة حذيفة بن اليمان ، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا إلى المشركين فجلس بينهم . فقال أبو سفيان : لينظر كل منكم جليسه ، فبادر حذيفة وقال لجليسه : من أنت ؟ فقال : فلان بن فلان .

ومنها : فراسة المغيرة بن شعبة ، وقد استعمله عمر على البحرين . فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم ، فخافوا أن يرده عليهم . فقال دهقانهم : إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا . قالوا مرنا بأمرك . قال : تجمعون مائة ألف درهم ، حتى أذهب بها إلى عمر ، وأقول : إن المغيرة اختان هذا ودفعه إلي ، فجمعوا ذلك . فأتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ) إن المغيرة اختان هذا ، فدفعه إلي . فدعا عمر المغيرة ، فقال : ما يقول هذا ؟ قال : كذب ، أصلحك الله ، إنما كانت مائتي ألف ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ قال : العيال والحاجة . فقال عمر للدهقان : ما تقول ؟ فقال : لا والله ، لأصدقنك ، والله ما دفع إلي قليلا ولا كثيرا . ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا ، فقال عمر للمغيرة : ما حملك على هذا ؟ قال : إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه .

[ ص: 37 ] وخطب المغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة ، وكان الفتى جميلا ، فأرسلت إليهما المرأة : لا بد أن أراكما ، وأسمع كلامكما ، فاحضرا إن شئتما ، فأجلستهما بحيث تراهما . فعلم المغيرة أنها تؤثر عليه الفتى ، فأقبل عليه ، فقال : لقد أوتيت حسنا وجمالا وبيانا . فهل عندك سوى ذلك ؟ قال : نعم . فعدد عليه محاسنه ، ثم سكت .

فقال المغيرة : فكيف حسابك ؟ فقال : لا يسقط علي منه شيء ، وإني لأستدرك منه أقل من الخردلة ، فقال له المغيرة : لكني أضع البدرة في زاوية البيت ، فينفقها أهل بيتي على ما يريدون ، فما أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها ، فقالت المرأة : والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلي من الذي يحصي علي أدنى من الخردلة . فتزوجت المغيرة .

ومنها : فراسة عمرو بن العاص لما حاصر غزة ، فبعث إليه صاحبها : أن أرسل إلي رجلا من أصحابك أكلمه . ففكر عمرو بن العاص ، وقال : ما لهذا الرجل غيري فخرج حتى دخل عليه ، فكلمه كلاما لم يسمع مثله قط . فقال له : حدثني ، هل أحد من أصحابك مثلك ؟ فقال : لا تسل ، من هواني عندهم بعثوني إليك ، وعرضوني لما عرضوني . ولا يدرون ما يصنع بي . فأمر له بجارية وكسوة . وبعث إلى البواب : إذا مر بك فاضرب عنقه ، وخذ ما معه . فمر برجل من نصارى غسان فعرفه . فقال يا عمرو قد أحسنت الدخول ، فأحسن الخروج ، فرجع ، فقال له الملك : ما ردك إلينا ؟ قال : نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع من معي من بني عمي ، فأردت الخروج ، فآتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة رجال خيرا من أن يكون عند واحد ، قال : صدقت عجل بهم . وبعث إلى البواب : خل سبيله ، فخرج عمرو وهو يلتفت ، حتى إذا أمن قال : لا عدت لمثلها . فلما كان بعد رآه الملك ، فقال : أنت هو ؟ قال : نعم ، على ما كان من غدرك .

ومن ذلك : فراسة الحسن بن علي رضي الله عنهما لما جيء إليه بابن ملجم قال له : أريد أسارك بكلمة فأبى الحسن ، وقال : تريد أن تعض أذني ، فقال ابن ملجم : والله لو أمكنتني منها لأخذتها من صماخها .

قال أبو الوفاء ابن عقيل : فانظر إلى حسن رأي هذا السيد الذي قد نزل به من المصيبة العاجلة ما يذهل الخلق ، وفطنته إلى هذا الحد ، وإلى ذلك اللعين كيف لم يشغله حاله عن استزادة الجناية .

ومن ذلك : فراسة أخيه الحسين رضي الله عنهما أن رجلا ادعى عليه مالا . فقال الحسين : ليحلف على ما ادعاه ويأخذه ، فتهيأ الرجل لليمين ، وقال : والله الذي لا إله إلا هو . فقال الحسين : قل : والله ، والله ، والله ثلاثا إن هذا الذي تدعيه عندي ، وفي قبلي ، ففعل الرجل ذلك . وقام فاختلفت رجلاه وسقط ميتا فقيل للحسين : لم فعلت ذلك ؟ أي عدلت عن قوله : والله الذي لا إله إلا هو إلى قوله : " والله والله والله " فقال : كرهت أن يثني على الله ، فيحلم عنه .

[ ص: 38 ] ومن ذلك : فراسة العباس رضي الله عنه - ما ذكره مجاهد قال - { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ وجد ريحا . فقال : ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ . فاستحيا الرجل ، ثم قال : ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ . فإن الله لا يستحيي من الحق .

فقال العباس : ألا نقوم كلنا نتوضأ ؟
} . هكذا رواه الفريابي عن الأوزاعي مرسلا ، ووصله عن محمد بن مصعب ، فقال : عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما

وقد جرت مثل هذه القضية في مجلس عمر رضي الله عنه قال الشعبي : " كان عمر في بيت ، ومعه جرير بن عبد الله البجلي . فوجد عمر ريحا . فقال : عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ . فقال جرير : يا أمير المؤمنين ، أو يتوضأ القوم جميعا . فقال عمر : يرحمك الله . نعم السيد كنت في الجاهلية ، ونعم السيد وأنت في الإسلام " .

التالي السابق


الخدمات العلمية