صفحة جزء
ومن أحسن الفراسة : فراسة عبد الملك بن مروان لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه فبعث معه ورقة لطيفة إلى عبد الملك . فلما قرأها قال : أتدري ما فيها ؟ قال : فيها " عجب ، كيف ملكت العرب غير هذا ؟ " أفتدري ما أراد ؟ قال : لا . قال : حسدني عليك . فأراد أني أقتلك ، فقال الشعبي : لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني . فبلغ ذلك ملك الروم ، فقال : والله ما أخطأ ما كان في نفسي .

ومن دقيق الفطنة : أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ ، فتحمله رتبته على نصرة الخطإ . وذلك خطأ ثان ، ولكن تلطف في إعلامه به ، حيث لا يشعر به غيره . ومن دقيق الفراسة : أن المنصور جاءه رجل ، فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا ، فدفعه إلى امرأته ، ثم طلبه منها . فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقبا ولا أمارة ، فقال المنصور : منذ كم تزوجتها ؟ قال : منذ سنة ، قال : بكرا أو ثيبا ؟ قال : ثيبا ، قال : فلها ولد من غيرك ؟ قال : لا ، قال : فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتخذ له حاد الرائحة ، غريب النوع ، فدفعها إليه ، وقال له : تطيب من هذا الطيب ، فإنه يذهب غمك . فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته : ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به . وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته ، فلما شمته بعثت به إلى رجل كانت تحبه ، وقد كانت دفعت إليه المال ، فتطيب منه ، ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة ، فشم الموكل بالباب رائحته عليه ; فأتى به المنصور ، فسأله : من أين لك هذا الطيب ؟ فلجلج في كلامه . فدفعه إلى والي الشرطة ، [ ص: 39 ] فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه ، وإلا اضربه ألف سوط . فلما جرد للضرب أحضر المال على هيئته فدعا المنصور صاحب المال ، فقال : أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك ؟ قال : نعم . قال : هذا مالك ، وقد طلقت المرأة منك .

14 - فصل

ومنها أن شريكا دخل على المهدي ، فقال للخادم : هات عودا للقاضي - يعني البخور - فجاء الخادم بعود يضرب به ، فوضعه في حجر شريك ، فقال : ما هذا ؟ فبادر المهدي ، وقال : هذا عود أخذه صاحب العسس البارحة ، فأحببت أن يكون كسره على يديك ، فدعا له وكسره . ومن ذلك : ما يذكر عن المعتضد بالله ، أنه كان جالسا يشاهد الصناع ، فرأى فيهم أسود منكر الخلقة ، شديد المرح ، يعمل ضعف ما يعمل الصناع ، ويصعد مرقاتين مرقاتين ، فأنكر أمره ، فأحضره وسأله عن أمره ؟ فلجلج ، فقال لبعض جلسائه : أي شيء يقع لكم في أمره ؟ قالوا : ومن هذا حتى تصرف فكرك إليه ؟ لعله لا عيال له ، وهو خالي القلب ، فقال : قد خمنت في أمره تخمينا ، ما أحسبه باطلا : إما أن يكون معه دنانير ، قد ظفر بها دفعة ، أو يكون لصا يتستر بالعمل ، فدعا به ، واستدعى بالضراب فضربه ، وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه ، فقال : لي الأمان ، قال : نعم ، إلا فيما يجب عليك بالشرع . فظن أنه قد أمنه ، فقال : قد كنت أعمل في الآجر ، فاجتاز رجل في وسطه هميان ، فجاء إلى مكان فجلس وهو لا يعلم مكاني ، فحل الهميان وأخرج منه دنانير فتأملته ، وإذا كله دنانير فساورته وكتفته وشددت فاه ، وأخذت الهميان ، وحملته على كتفي وطرحته في الأتون وطينته . فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه فطرحتها في دجلة . فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير من منزله ، وإذا على الهميان مكتوب : فلان ابن فلان ، فنادى في البلد باسمه ، فجاءت امرأة فقالت : هذا زوجي . ولي منه هذا الطفل ، خرج وقت كذا وكذا ومعه ألف دينار : فغاب إلى الآن . فسلم الدنانير إليها ، وأمرها أن تعتد ، وأمر بضرب عنق الأسود ، وحمل جثته إلى ذلك الأتون .

وكان للمعتضد من ذلك عجائب ، منها : أنه قام ليلة ، فإذا غلام قد وثب على ظهر غلام ، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه ، فجاء فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد ، فيجده ساكنا ، حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام ، فإذا به يخفق خفقا شديدا ، فركضه برجله ، واستقره ، فأقر ، فقتله .

ومنها : أنه رفع إليه أن صيادا ألقى شبكته في دجلة ، فوقع فيها جراب فيه كف مخضوبة بحناء ، وأحضر بين يديه ، فهاله ذلك . وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هنالك ففعل ، فأخرج جرابا آخر فيه رجل ، فاغتم المعتضد وقال : معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه ؟ ثم أحضر ثقة له وأعطاه [ ص: 40 ] الجراب ، وقال : طف به على كل من يعمل الجرب ببغداد .

فإن عرفه أحد منهم فاسأله عمن باعه منه ، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك ونقر عن خبره .

فغاب الرجل ثلاثة أيام ، ثم عاد ، فقال : ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي ، اشتراه مع عشرة جرب ، وشكا البائع شره وفساده ، ومن جملة ما قال : إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها ، فلا يعرف لها خبر ، وادعى أنها هربت ، والجيران يقولون : إنه قتلها .

فبعث المعتضد من كبس منزل الهاشمي وأحضره ، وأحضر اليد والرجل ، وأراه إياهما ، فلما رآهما امتقع لونه ، وأيقن بالهلاك واعترف .

فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاها ، وحبس الهاشمي حتى مات في الحبس .

التالي السابق


الخدمات العلمية