صفحة جزء
18 - ( فصل )

ومن ذلك : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بامرأة زنت ، فسألها فأقرت فأمر برجمها . فقال علي : لعل لها عذرا ، ثم قال لها : ما حملك على الزنا ؟ قالت : كان لي خليط ، وفي إبله ماء ولبن ، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن فظمئت فاستسقيته ، فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي . فأبيت عليه ثلاثا . فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد ، فسقاني ، فقال علي : الله أكبر { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ، إن الله غفور رحيم } .

وفي سنن البيهقي " ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : أتي عمر بامرأة جهدها العطش ، فمرت على راع فاستسقت ، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها . فشاور الناس في رجمها . فقال علي : هذه مضطرة ، أرى أن تخلي سبيلها ، ففعل .

قلت : والعمل على هذا ، لو اضطرت المرأة إلى طعام أو شراب عند رجل فمنعها إلا بنفسها ، وخافت الهلاك ، فمكنته من نفسها فلا حد عليها .

فإن قيل : فهل يجوز لها في هذه الحال أن تمكن من نفسها ، أم يجب عليها أن تصبر ولو ماتت ؟ قيل : هذه حكمها حكم المكرهة على الزنا ، التي يقال لها : إن مكنت من نفسك ، وإلا قتلتك . والمكرهة لا حد عليها ، ولها أن تفتدي من القتل بذلك .

ولو صبرت لكان أفضل لها ، ولا يجب عليها [ ص: 50 ] أن تمكن من نفسها ، كما لا يجب على المكره على الكفر أن يتلفظ به ، وإن صبر حتى قتل لم يكن آثما . فالمكرهة على الفاحشة أولى .

فإن قيل : لو وقع مثل ذلك لرجل ، وقيل له : إن لم تمكن من نفسك ، وإلا قتلناك ، أو منع الطعام والشراب ، حتى يمكن من نفسه ، وخاف الهلاك . فهل يجوز له التمكين ؟ قيل : لا يجوز له ذلك ، ويصبر للموت . والفرق بينه وبين المرأة : أن العار الذي يلحق المفعول به ، لا يمكن تلافيه ، وهو شر مما يحصل له بالقتل ، أو منع الطعام والشراب ، حتى يموت ; فإن هذا فساد في نفسه وعقله وقلبه ودينه وعرضه ، ونطفة اللوطي مسمومة ، تسري في الروح والقلب ، فتفسدها فسادا عظيما ، قل أن يرجى معه صلاح .

ففساد التفريق بين روحه وبدنه بالقتل ، دون هذه المفسدة ; ولهذا يجوز له أو يجب عليه - أن يقتل من يراوده عن نفسه ، إن أمكنه ذلك من غير خوف مفسدة .

ولو فعله السيد بعبده بيع عليه ، ولم يمكن من استدامة ملكه عليه . وقال بعض السلف : يعتق عليه . وهو قول قوي مبني على العتق بالمثلة ، لا سيما إذا استكرهه على ذلك ، فإن هذا جار مجرى المثلة .

وقد سئل الإمام أحمد عن رجل يتهم بغلامه . فأراد بعض الناس أن يرفعه إلى الإمام ، فدبر غلامه فقال : يحال بينه وبينه ، إذا كان فاجرا معلنا . فإن قيل : فهل يباح للغلام أن يهرب ؟ قيل : نعم يباح له ذلك .

قال أبو عمرو الطرسوسي - في كتاب تحريم اللواط : باب إباحة الهرب للمملوك إذا أريد منه هذا البلاء - ثم ساق بإسناد صحيح إلى عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري : " أن عبدا أتاه ، فقال : إني مملوك لهؤلاء ، يأمرونني بما لا يصلح أو نحوه . قال : اذهب في الأرض " .

وذكر عن القاسم بن الريان ، قال : سئل عبد الله بن المبارك عن الغلام إذا أرادوا أن يفضحوه ؟ قال يمنع ، ويذب عن نفسه . قال : أرأيت إن علم أنه لا ينجيه إلا القتل ، أيقتل حتى ينجو ؟ قال : نعم . انتهى .

قلت : ويكون مجاهدا إن قتل ، وشهيدا إن قتل . فإن من قتل دون ماله فهو شهيد ، فكيف من قتل دون هذه الفاحشة ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية