صفحة جزء
21 - ( فصل )

وكان علي رضي الله عنه لا يحبس في الدين ، ويقول : " إنه ظلم " .

قال أبو داود في غير كتاب السنن : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا مروان يعني ابن معاوية - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن علي ، قال : قال علي : " حبس الرجل في السجن بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم " .

وقال ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل ، عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر ، عن علي قال : " حبس الرجل في السجن بعد أن يعلم ما عليه ظلم " .

وقال أبو حاتم الرازي : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبي جعفر ، أن عليا كان يقول : " حبس الرجل في السجن بعد أن يعلم ما عليه من الحق ظلم " .

وقال أبو نعيم : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : سمعت عبد الملك بن عمير يقول : " إن عليا كان إذا جاءه الرجل بغريمه ، قال : لي عليه كذا . يقول : اقضه فيقول : ما عندي ما أقضيه ، فيقول : غريمه : إنه كاذب ، وإنه غيب ماله . فيقول : هلم بينة على ماله يقضى لك عليه . فيقول : إنه غيبه . فيقول : استحلفه بالله ما غيب منه شيئا . قال : لا أرضى بيمينه . فيقول : فما تريد ؟ قال : أريد أن تحبسه لي ، فيقول : لا أعينك على ظلمه ، ولا أحبسه ، قال : إذن ألزمه ، فيقول : إن لزمته كنت ظالما له ، وأنا حائل بينك وبينه " .

قلت : هذا الحكم عليه جمهور الأئمة فيما إذا كان عليه دين عن غير عوض مالي ، كالإتلاف والضمان والمهر ونحوه فإن القول قوله مع يمينه ولا يحل حبسه بمجرد قول الغريم : إنه مليء ، وإنه غيب ماله .

قالوا : وكيف يقبل قول غريمه عليه ، ولا أصل هناك يستصحبه ولا عوض هذا الذي ذكره أصحاب الشافعي ومالك وأحمد .

وأما أصحاب أبي حنيفة : فإنهم قسموا الدين إلى ثلاثة أقسام : قسم عن عوض مالي ، كالقرض ، وثمن المبيع ونحوهما .

وقسم لزمه بالتزامه ، كالكفالة والمهر وعوض الخلع ونحوه ، وقسم لزمه بغير [ ص: 57 ] التزامه ، وليس في مقابلة عوض ، كبدل المتلف وأرش الجناية ، ونفقة الأقارب والزوجات ، وإعتاق العبد المشترك ونحوه .

ففي القسمين الأولين : يسأل المدعي عن إعسار غريمه ، فإن أقر بإعساره لم يحبس له ، وإن أنكر إعساره ، وسأل حبسه : حبس ، لأن الأصل بقاء عوض الدين عنده ، والتزامه للقسم الآخر باختياره : يدل على قدرته على الوفاء وهل تسمع بينة بالإعسار قبل الحبس أو بعده ؟ على قولين عندهم .

وإذا قيل : لا تسمع إلا بعد الحبس ، فقال بعضهم : تكون مدة الحبس شهرا ، وقيل : اثنان ، وقيل : ثلاثة ، وقيل : أربعة ، وقيل : ستة ، والصحيح : أنه لا حد له ، وأنه مفوض إلى رأي الحاكم .

والذي يدل عليه الكتاب والسنة ، وقواعد الشرع : أنه لا يحبس في شيء من ذلك ، إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل ، سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض ، وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره .

فإن الحبس عقوبة ، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها ، وهي من جنس الحدود ، فلا يجوز إيقاعها بالشبهة ، بل يتثبت الحاكم ، ويتأمل حال الخصم ، ويسأل عنه ، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه ، وإن تبين له بالقرائن والأمارات عجزه لم يحل له أن يحبسه ولو أنكر غريمه إعساره ، فإن عقوبة المعذور شرعا ظلم .

وإن لم يتبين له من حاله شيء أخره حتى يتبين له حاله . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء المفلس الذي لم يكن له ما يوفي دينه : { خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك } وهذا صريح في أنه ليس لهم إذا أخذوا ما وجدوه إلا ذلك ، وليس لهم حبسه ولا ملازمته ولا ريب أن الحبس من جنس الضرب ، بل قد يكون أشد منه ، ولو قال الغريم للحاكم : اضربه إلى أن يحضر المال ، لم يجبه إلى ذلك فكيف يجيبه إلى الحبس الذي هو مثله أو أشد .

ولم يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم طول مدته أحدا في دين قط ، ولا أبو بكر بعده ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم ; وقد ذكرنا قول علي رضي الله عنه .

[ ص: 58 ] قال شيخنا رحمه الله : وكذلك لم يحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين زوجا في صداق امرأته أصلا .

وفي رسالة الليث إلى مالك - التي رواها يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ في تاريخه " عن أيوب عن يحيى بن عبيد الله بن أبي بكر المخزومي ، قال : هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك فذكرها إلى أن قال : " ومن ذلك : أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء ، أنها متى شاءت أن تكلم في مؤخر صداقها تكلمت ، فيدفع إليها .

وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك ، وأهل الشام وأهل مصر ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعده لامرأة بصداقها المؤخر ، إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق ، فتقوم على حقها .

قلت : مراده بالمؤخر : الذي أخر قبضه عن العقد ، فترك مسمى ، وليس المراد به : المؤجل . فإن الأمة مجمعة على أن المرأة لا تطالب به قبل أجله ، بل هو كسائر الديون المؤجلة ، وإنما المراد : ما يفعله الناس من تقديم بعض المهر إلى المرأة ، وإرجاء الباقي ، كما يفعله الناس اليوم ، وقد دخلت الزوجة والأولياء على تأخيره إلى الفرقة ، وعدم المطالبة به ما داما متفقين .

ولذلك لا تطالب به إلا عند الشر والخصومة ، أو تزوجه بغيرها ، والله يعلم - والزوج والشهود والمرأة والأولياء - أن الزوج والزوجة لم يدخلا إلا على ذلك وكثير من الناس يسمي صداقا تتجمل به المرأة وأهلها ، ويعدونه - بل يحلفون له - أنهم لا يطالبون به .

فهذا لا تسمع دعوى المرأة به قبل الطلاق ، أو الموت ، ولا يطالب به الزوج ولا يحبس به أصلا ، وقد نص أحمد على ذلك ، وأنها إنما تطالب به عند الفرقة أو الموت ، وهذا هو الصواب الذي لا تقوم مصلحة الناس إلا به .

قال شيخنا : ومن حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة ، وحبس الأزواج عليها ، حدث من الشرور والفساد ما الله به عليم .

وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت ، ومنعها من البروز ، والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت : تدعي بصداقها ، وتحبس الزوج عليه ، وتنطلق حيث شاءت ، فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس ، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه فإن قيل فالشرط إنما يكتبه حالا في ذمته تطالبه به متى شاءت .

قيل : لا عبرة بهذا بعد الاطلاع على حقيقة الحال ، وأن الزوج لو عرف أن هذا دين حال تطالبه به بعد يوم أو شهر ، وتحبسه عليه : لم يقدم على ذلك أبدا ، وإنما دخلوا على أن ذلك مسمى ، تتجمل به المرأة ، والمهر هو ما ساق إليها ، فإن قدر بينهما طلاق أو موت ، طالبته بذلك .

وهذا هو الذي في نظر الناس وعرفهم وعوائدهم ، ولا تستقيم أمورهم إلا به ، والله المستعان . [ ص: 59 ] والمقصود : أن الحبس في الدين من جنس الضرب بالسياط والعصي فيه ، وذلك عقوبة لا تسوغ إلا عند تحقق السبب الموجب ولا تسوغ بالشبهة ، بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة من ثبوتها بالشبهة ، والله أعلم .

وقال الأصبغ بن نباتة : بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه ، إذ سمع ضجة ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : رجل سرق ، ومعه من يشهد عليه ، فأمر بإحضارهم ، فدخلوا ، فشهد شاهدان عليه : أنه سرق درعا ، فجعل الرجل يبكي ، ويناشد عليا أن يتثبت في أمره . فخرج علي إلى مجتمع الناس بالسوق ، فدعا بالشاهدين فناشدهما الله وخوفهما ، فأقاما على شهادتهما . فلما رآهما لا يرجعان دعا بالسكين وقال : ليمسك أحدكما يده ويقطع الآخر ، فتقدما ليقطعاه ، فهاج الناس ، واختلط بعضهم ببعض ، وقام علي عن الموضع . فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا . فقال علي : من يدلني على الشاهدين الكاذبين ؟ فلم يوقف لهما على خبر ، فخلى سبيل الرجل .

وهذا من أحسن الفراسة ، وأصدقها ، فإنه ولى الشاهدين من ذلك ما توليا ، وأمرهما أن يقطعا بأيديهما من قطعا يده بألسنتهما ، ومن هاهنا قالوا : إنه يبدأ الشهود بالرجم إذا شهدوا بالزنا .

وجاءت إلى علي رضي الله عنه امرأة ، فقالت : إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري ، فقال للرجل : ما تقول ؟ قال : ما وقعت عليها إلا بأمرها ، فقال : إن كنت صادقة رجمته ، وإن كنت كاذبة جلدتك الحد ، وأقيمت الصلاة ، وقام ليصلي ، ففكرت المرأة في نفسها ، فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها ولا في أن تجلد ، فولت ذاهبة ، ولم يسأل عنها علي .

22 - ( فصل )

ومن المنقول عن كعب بن سور ، قاضي عمر بن الخطاب ، أنه اختصم إليه امرأتان ، كان لكل واحدة منهما ولد ، فانقلبت إحدى المرأتين على أحد الصبيين فقتلته ، فادعت كل واحدة منهما الباقي ، فقال كعب : لست بسليمان بن داود ، ثم دعا بتراب ناعم ففرشه ، ثم أمر المرأتين فوطئتا عليه . ثم مشى الصبي عليه . ثم دعا القائف ، فقال : انظر في هذه الأقدام ، فألحقه بإحداهما .

قال عمر بن شبة : وأتى صاحب عين هجر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لي عينا ، فاجعل لي خراج ما تسقي ، قال : هو لك ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، ليس له ذلك ، قال : ولم ؟ قال : لأنه يفيض ماؤه عن أرضه ، فيسيح في أراضي الناس ، ولو حبس ماؤه في أرضه لغرقت ، فلم ينتفع بأرضه ولا بمائه ، فمره فليحبس ماءه عن أراضي الناس إن كان صادقا ، فقال له عمر رضي الله عنه : أتستطيع أن تحبس ماءك ؟ قال : لا . قال : فكانت هذه لكعب .

التالي السابق


الخدمات العلمية