صفحة جزء
78 - ( فصل )

الطريق السادس عشر الحكم بشهادة الفساق - وذلك في صور :

إحداها : الفاسق باعتقاده ، إذا كان متحفظا في دينه ، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه ، [ ص: 146 ] كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم ، كالرافضة والخوارج والمعتزلة ، ونحوهم ، هذا منصوص الأئمة .

قال الشافعي : أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض ، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم .

ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ويعد الكذب ذنبا أولى بالقبول ممن ليس كذلك ، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم .

وإنما منع الأئمة - كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله - قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته ، والصلاة خلفه : هجرا له ، وزجرا لينكف ضرر بدعته عن المسلمين ، ففي قبول شهادته وروايته ، والصلاة خلفه ، واستقضائه وتنفيذ أحكامه : رضى ببدعته ، وإقرار له عليها ، وتعريض لقبولها منه .

قال حرب : قال أحمد : لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا إلى بدعة ويخاصم عليها .

قال الميموني : قال أبو عبد الله في الرافضة - لعنهم الله - : لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم .

وقال إسحاق بن منصور ، قلت لأحمد : كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا ، لا يستحل شهادة الزور .

قال أحمد : ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة .

وقال الميموني : سمعت أبا عبد الله يقول : من أخاف عليه الكفر - مثل الروافض والجهمية - لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم .

وقال في رواية يعقوب بن بختان : إذا كان القاضي جهميا لا نشهد عنده .

وقال أحمد بن الحسن الترمذي : قدمت على أبي عبد الله ، فقال : ما حال قاضيكم ؟ لقد مد له في عمره ، فقلت له : إن للناس عندي شهادات ، فإذا صرت إلى البلاد لا آمن إذ أشهد عنده أن يفضحني ، قال : لا تشهد عنده ، قلت : يسألني من له عندي شهادة ، قال : لك ألا تشهد عنده . قلت : من كفر بمذهبه - كمن ينكر حدوث العالم ، وحشر الأجساد ، وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات ، وأنه فاعل بمشيئته وإرادته - فلا تقبل شهادته ، لأنه على غير الإسلام ، فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم .

فهؤلاء أقسام :

أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر ولا يفسق ، ولا ترد شهادته ، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورا . [ ص: 147 ]

القسم الثاني : المتمكن من السؤال وطلب الهداية ، ومعرفة الحق ، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ، ولذته ومعاشه وغير ذلك ، فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته ، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات ، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى : ردت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى : قبلت شهادته .

القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ، ويتبين له الهدى ، ويتركه تقليدا وتعصبا ، أو بغضا أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته : أن يكون فاسقا ، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل ، فإن كان معلنا داعية : ردت شهادته وفتاويه وأحكامه ، مع القدرة على ذلك ، ولم تقبل له شهادة ، ولا فتوى ولا حكم ، إلا عند الضرورة ، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم ، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم ، ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير ، ولا يمكن ذلك ، فتقبل للضرورة .

وقد نص مالك - رحمه الله - على أن شهادة أهل البدع - كالقدرية والرافضة ونحوهم - لا تقبل ، وإن صلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا .

قال اللخمي : وذلك لفسقهم ، قال : ولو كان ذلك عن تأويل غلطوا فيه . فإذا كان هذا ردهم لشهادة القدرية - وغلطهم إنما هو من تأويل القرآن كالخوارج - فما الظن بالجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ؟ وعلى هذا ، فإذا كان الناس فساقا كلهم إلا القليل النادر : قبلت شهادة بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق فالأمثل ، هذا هو الصواب الذي عليه العمل ، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم ، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ، ونفوذ أحكامه ، وإن أنكروه بألسنتهم ، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق وليا في النكاح ووصيا في المال .

والعجب ممن يسلبه ذلك ويرد الولاية إلى فاسق مثله ، أو أفسق منه .

فإن العدل الذي تنتقل إليه الولاية قد تعذر وجوده ، وامتاز الفاسق القريب بشفقة القرابة ، والوصي باختيار الموصى له وإيثاره على غيره ، ففاسق عينه الموصي ، أو امتاز بالقرابة : أولى من فاسق ليس كذلك ، على أنه إذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها ، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق ، فلا يجوز رده مطلقا ، بل يتثبت فيه حتى يتبين ، هل هو صادق أو كاذب ؟ فإن كان صادقا قبل قوله وعمل به ، وفسقه عليه ، وإن كان كاذبا رد خبره ولم يلتفت إليه .

ولرد خبر الفاسق وشهادته مأخذان : [ ص: 148 ] أحدهما : عدم الوثوق به ، إذ تحمله قلة مبالاته بدينه ، ونقصان وقار الله في قلبه - على تعمد الكذب .

الثاني : هجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته به فقبول - شهادته إبطال لهذا الغرض المطلوب شرعا . فإذا علم صدق لهجة الفاسق ، وأنه من أصدق الناس - وإن كان فسقه بغير الكذب - فلا وجه لرد شهادته ، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هاديا يدله على طريق المدينة ، وهو مشرك على دين قومه ، ولكن لما وثق بقوله أمنه ، ودفع إليه راحلته ، وقبل دلالته ( 47 ) .

وقد قال أصبغ بن الفرج : إذا شهد الفاسق عند الحاكم وجب عليه التوقف في القضية ، وقد يحتج له بقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وحرف المسألة : أن مدار قبول الشهادة ، وردها ، على غلبة ظن الصدق وعدمه . والصواب المقطوع به أن العدالة تتبعض ، فيكون الرجل عدلا في شيء ، فاسقا في شيء ، فإذا تبين للحاكم أنه عدل فيما شهد به : قبل شهادته ولم يضره فسقه في غيره . ومن عرف شروط العدالة ، وعرف ما عليه الناس تبين له الصواب في هذه المسألة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية