صفحة جزء
ومن طلق عقيب العقد من غير مهلة ، ثم جاءت بولد .

فإن قيل : فقد ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في لحوق النسب ، كما في " الصحيح " : { أن رجلا قال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل ؟ قال : نعم .

قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم ، إن فيها لورقا ، قال : فأنى لها ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق
} . [ ص: 188 ]

قيل : إنما لم يعتبر الشبه هاهنا لوجود الفراش الذي هو أقوى منه ، كما في حديث ابن أمة زمعة ، ولا يدل على ذلك على أنه لا يعتبر مطلقا ، بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه ، فإنه صلى الله عليه وسلم أحال على نوع آخر من الشبه ، وهو نزع العرق ، وهذا الشبه أولى لقوته بالفراش ، والله أعلم .

قالت الحنفية : إذا لم ينازع مدعي الولد غيره فهو له ، وإن نازعه غيره ، فإن كان أحدهما صاحب فراش : قدم على الآخر ، فإن الولد للفراش ، وإن استويا في عدم الفراش ، فإن ذكر أحدهما علامة بجسده ووصفه بصفة فهو له ، وإن لم يصفه واحد منهما ، فإن كانا رجلين ، أو رجلا وامرأة : ألحق بهما ، وإن كانا امرأتين ، فقال أبو حنيفة : يلحق بهما حكما ، مع العلم بأنه لم يخرج إلا من إحداهما ، ولكن ألحقه بهما في الحكم ، كما لو كان المدعى به مالا ، فأجري الإنسان مجرى الأموال والحقوق .

وقال أبو يوسف ومحمد : لا يلحق بهما ، كما قال الجمهور ، للقطع بأنه يستحيل أن يولد منهما ، بخلاف الرجلين ، فإنه يمكن تخليقه من مائهما ، كما يخلق من ماء الرجل والمرأة .

قالوا : وقد دل على اعتبار العلامات : قصة شاهد يوسف ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للملتقط : { اعرف عفاصها ووكاءها ووعاءها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فأدها إليه } ( 19 ) .

قالوا : ولو أثرت القافة والشبه في نتاج الآدمي لأثر ذلك في نتاج الحيوان ، فكنا نحكم بالشبه في ذلك ، كما نحكم به بين الآدميين ، ولا نعلم بذلك قائلا .

قالوا : ولأن الشبه أمر مشهود مدرك بحاسة البصر ، فإما أن يحصل لنا ذلك بالمشاهدة أو لا يحصل ، فإن حصل لم تكن في القائف فائدة ، ولا حاجة إليه ، وإن لم يحصل لنا بالمشاهدة لم نصدق القائف ، فإنه يدعي أمرا حسيا لا يدرك بالحس .

قالوا : وقد دل الحس على وقوع التشابه بين الأجانب الذين لا نسب بينهم ، ووقوع التخالف والتباين بين ذوي النسب الواحد ، وهذا أمر معلوم بالمشاهدة لا يمكن جحده ، فكيف يكون دليلا على النسب ، ويثبت به التوارث والحرمة والمحرمية وسائر أحكام النسب ؟ .

قالوا : والاستلحاق موجب للحوق النسب ، وقد وجد في المتداعيين وتساويا فيه ، فيجب أن يتساويا في حكمه ، فإنه يمكن كونه منهما ، وقد استلحقه كل واحد منهما ، والاستلحاق أقوى من الشبه ، ولهذا : لو استلحقه مستلحق ووجدنا شبها بينا بغيره : ألحقناه بمن استلحقه ، ولم نلتفت إلى الشبه .

قالوا : ولأن القائف إما شاهد وإما حاكم ، فإن كان شاهدا فمستند شهادته الرؤية ، وهو وغيره فيها سواء ، فجرى تفرده في الشهادة مجرى شهادة واحد من بين الجمع العظيم بأمر لو وقع لشاركوه في العلم به ، ومثل هذا لا يقبل . [ ص: 189 ] وإن كان حاكما : فالحاكم لا بد له من طريق يحكم بها ، ولا طريق هاهنا إلا الرؤية والشبه ، وقد عرف أنه لا يصلح طريقا .

قالوا : ولو كانت القافة طريقا شرعيا لما عدل عنها داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما في قصة الولد الذي ادعته المرأتان ، بل حكم به داود للكبرى ، وحكم به سليمان للصغرى بالقرينة التي استدل بها من شفقتها عليه بإقرارها به للكبرى ، ولم يعتبر قافة ولا شبها . قالوا : وقد روى زيد بن أرقم قال : { أتي علي رضي الله عنه - وهو باليمن - بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فسأل اثنين : أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا ، حتى سألهم جميعا ، فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا ، فأقرع بينهم ، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية ، قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، حتى بدت نواجذه } وفي لفظ { فمن قرع فله الولد ، وعليه لصاحبيه ثلثا الدية } . وفي لفظ { فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ، لا أعلم إلا ما قال علي } أخرجه الإمام أحمد في " المسند " وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في صحيحه " .

قال أبو محمد بن حزم : هذا خبر مستقيم السند ، نقلته كلهم ثقات . ا هـ . وهذا حديث مداره على الشعبي وقد رواه عنه جماعة واختلف عليه . فرواه يحيى بن سعيد القطان ، وخالد بن عبد الله الواسطي ، وعبد الله بن نمير ، ومالك بن إسماعيل النهدي ، وقيس بن الربيع ، عن الأجلح يحيى بن عبد الله بن حجية الكندي - عن الشعبي عن عبد الله بن الخليل الحضرمي الكوفي عن زيد بن أرقم ، ومن هذا الوجه : أورده الحاكم . وكذلك رواه سفيان بن عيينة ، وعلي بن مسهر عن الأجلح ، وقالا : عبد الله بن أبي الخليل . ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل أو ابن أبي الخليل " أن ثلاثة نفر اشتركوا " ولم يذكر زيدا ، ولم يرفعه . ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبي عن عبد خير الحضرمي . ورواه ابن عيينة وجرير بن عبد الحميد وعبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن سالم عن الشعبي عن علي بن ذريح - ويقال : ذري الحضرمي - عن زيد ، ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن أبي إسحاق الشيباني عن سليمان بن فيروز - عن الشعبي عن رجل من حضرموت عن زيد . [ ص: 190 ] وبالجملة فيكفي أن في هذا الحديث أمير المؤمنين ، وفي الحديث شعبة ، وإذا كان شعبة في حديث لم يكن باطلا ، وكان محفوظا

وقد عمل به أهل الظاهر ، وهو وجه للشافعية عند تعارض البينة ، وهو ظاهر - بل صريح - في عدم اعتبار القافة ، فإنها لو كانت معتبرة لم يعدل عنها إلى القرعة . قالوا : وأصح ما معكم : حديث أسامة بن زيد ، ولا حجة فيه ، لأن النسب هناك ثابت بالفراش ، فوافقه قول القائف فسر النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة قول القائف لشرعه الذي جاء به من أن الولد للفراش وهذا الإخفاء به ، فمن أين يصلح ذلك لإثبات كون القافة طريقا مستقلا بإثبات النسب ؟ .

قال أصحاب الحديث : نحن إنما نحتاج إلى القافة عند التنازع في الولد ، نفيا وإثباتا ، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان ، أو اعترف الرجلان بأنهما وطئا المرأة بشبهة ، وأن الولد من أحدهما ، وكل منهما ينفيه عن نفسه ، وحينئذ : فإما أن نرجح أحدهما بلا مرجح ، ولا سبيل إليه ، وإما أن نلغي دعواهما فلا يلحق بواحد منهما ، وهو باطل أيضا ، فإنهما معترفان بسبب اللحوق ، وليس هنا سبب غيرهما وإما أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدهما .

وهو أيضا باطل شرعا وعرفا وقياسا كما تقدم . وإما أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات في الولد . كما يقدم واصف اللقطة .

وهذا - أيضا - لا اعتبار به هاهنا . بخلاف اللقطة . والفرق بينهما ظاهر . فإن اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد بل هو واقع كثيرا ، فإن الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما ، وأما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها وعفاصها ووعائها ووكائها : فأمر في غاية الندرة ، فإن العادة جارية بإخفائها وكتمانها ، فإلحاق إحدى الصورتين بالأخرى ممتنع . وأما الإلحاق بأمين فمقطوع ببطلانه واستحالته ، عقلا وحسا ، فهو كإلحاق ابن ستين سنة بابن عشرين . وكيف ينكر القافة التي مدارها على الشبه الذي وضعه الله سبحانه بين الوالدين والولد من يلحق الولد بأمين ؟ فأين أحد هذين الحكمين من الآخر ، في العقل والشرع والعرف والقياس ؟ .

وما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام يقطع ببطلان سببه حسا أو عقلا ، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك ، فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه وتعالى ولا أعدل ، ولا يحكم حكما يقول العقل : ليته حكم بخلافه ، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفطرة بحسنها ، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها ، وأنه لا يصلح في موضعها سواها .

وأنت إذا عرضت على العقول كون الولد من أمين لم تجد قبولها له كقبولها لكون الولد لمن [ ص: 191 ] أشبه الشبه البين ، فإن هذا موافق لعادة الله وسنته في خلقه ، وذلك مخالف لعادته وسنته .

وقولهم : " إنهما استويا في سبب الإلحاق - وهو الدعوى - فيستويان في الحكم ، وهو لحوق النسب " .

فيقال : القاعدة أن صحة الدعوى يطلب بيانها من غير جهة المدعي مهما أمكن ، وقد أمكن هاهنا بيانها بالشبه البين يطلع عليه القائف ، فكان اعتبار صحتها بذلك أولى من اعتبار صحتها بمجرد الدعوى ، فإذا انتفى السبب الذي يبين صحتها من غير جهة المدعي - كالفراش والقافة - بغير إعمال الدعوى ، فإذا استويا فيها استويا في حكمها - فهذا محض الفقه ومقتضى قواعد الشرع . وأما أن تعمل الدعوى المجردة مع ظهور ما يخالفها من الشبه البين الذي نصبه الله سبحانه وتعالى علامة لثبوت النسب شرعا وقدرا : فهذا مخالف للقياس ولأصول الشرع .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البينة على المدعي } ( 21 ) " والبينة " اسم لما يبين صحة الدعوى والشبه : بين صحة الدعوى ، فإذا كان من جانب أحد المتلاعنين كان النسب له ، وإن كان من جهتهما كان النسب لهما .

وقولهم : " لو أثر الشبه والقافة في نتاج الآدمي لأثر في نتاج الحيوان " . جوابه من وجوه : أحدها : منع الملازمة ، إذ لم يذكروا عليها دليلا سوى مجرد الدعوى ، فأين التلازم شرعا وعقلا بين الناس ؟

الثاني : أن الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن ، ولا يحكم بانقطاع النسب إلا حيث يتعذر إثباته ، ولهذا ثبت بالفراش وبالدعوى وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان .

الثالث : أن إثبات النسب فيه حق لله وحق للولد وحق للأب ، ويترتب عليه من أحكام الوصل . بين العباد ما به قوام مصالحهم ما يترتب ، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان .

الرابع : أن سببه الوطء ، وهو إنما يقع غالبا في غاية التستر ، ويكتم عن العيون وعن اطلاع القريب والبعيد عليه ، فلو كلف البينة على سببه لضاعت أنساب بني آدم ، وفسدت أحكام الصلات التي بينهم ، ولهذا ثبت بأيسر شيء من فراش ودعوى وشبه ، حتى أثبته أبو حنيفة بمجرد العقد ، مع القطع بعدم وصول أحدهما إلى الآخر ، وأثبته لأمين مع القطع بعدم خروجه منهما احتياطا للنسب ، ومعلوم أن الشبه أولى وأقوى من ذلك بكثير . [ ص: 192 ]

الخامس : أن المقصود من نتاج الحيوان : إنما هو المال المجرد ، فدعواه دعوى مال محض ، بخلاف دعوى النسب ، فأين دعوى المال من دعوى النسب ؟ وأين أسباب ثبوت أحدهما من أسباب ثبوت الآخر ؟ .

السادس : أن المال يباح بالبذل ، ويعارض عليه ، ويقبل النقل ، وتجوز الرغبة عنه ، والنسب بخلاف ذلك .

السابع : أن الله سبحانه جعل بين أشخاص الآدميين من الفروق في صورهم وأصواتهم وحلاهم ما يتميز به بعضهم من بعض ، ولا يقع معه الاشتباه بينهم ، بحيث يتساوى الشخصان من كل وجه إلا في غاية الندرة ، مع أنه لا بد من الفرق وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان ، بل التشابه فيه أكبر والتماثل أغلب ، فلا يكاد الحس يميز بين نتاج الحيوان ونتاج غيره برد كل منهما إلى أمه وأبيه ، وإن كان قد يقع ذلك ، لكن وقوعه قليل بالنسبة إلى أشخاص الآدمي ، فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع .

الثامن : قولهم : " إن الاعتماد في القافة على الشبه ، وهو أمر مدرك بالحس فإن حصل بالمشاهدة ، فلا حاجة إلى القائف ، وإن لم يحصل لم يقبل قول القائف " .

جوابه أن يقال : الأمور المدركة بالحس نوعان : نوع يشترك فيه الخاص والعام ، كالطول والقصر ، والبياض والسواد ونحو ذلك ، فهذا لا يقبل فيه تفرد المخبر والشاهد بما لا يدركه الناس معه .

والثاني : ما لا يلزم فيه الاشتراك ، كرؤية الهلال ، ومعرفة الأوقات ، وأخذ كل من الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ونحو ذلك مما يختص بمعرفته أهل الخبرة ، من تعديل القسمة ، وكبر الحيوان وصغره ، والخرص ونحو ذلك ، فهذا وأمثاله مما مستنده الحس ولا يجب الاشتراك فيه ، فيقبل فيه قول الواحد والاثنين . ومن هذا : التشابه - بل والتماثل - بين الآدميين ، فإن التشابه بين الولد والوالد يظهر في صورة الطفل وشكله ، وهيئة أعضائه ، ظهورا خفيا ، يختص بمعرفته القائف دون غيره ، ولهذا كانت العرب تعرف ذلك لبني مدلج ، وتقر لهم به ، مع أنه لا يختص بهم ، ولا يشترط كون القائف منهم .

قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن القائف : هل يقضى بقوله ؟ قال : يقضى بقوله إذا علم ، وأهل الحجاز يعرفون ذلك وشرط بعض الشافعية كونه مدلجيا ، وهذا ضعيف جدا لا يلتفت إليه .

قال عبد الرحمن بن حاطب : " كنت جالسا عند عمر ، فجاءه رجلان في غلام ، كلاهما يدعي أنه ابنه ، فقال عمر رضي الله عنه : ادعوا لي أخا بني المصطلق ، فجاء فقال : انظر ابن أيهما تراه ؟ فقال : قد اشتركا فيه " وذكر بقية الخبر ، وبنو المصطلق بطن من خزاعة لا نسب لهم في بني مدلج . [ ص: 193 ] وكذلك إياس بن معاوية كان غاية في القيافة وهو من مزينة ، وشريح بن الحارث القاضي كان قائفا ، وهو من كندة ، وقد قال أحمد : أهل الحجاز يعرفون ذلك ، ولم يخصه ببني مدلج .

والمقصود : أن أهل القيافة كأهل الخبرة وأهل الخرص والقاسمين وغيرهم ، ممن اعتمادهم على الأمور المشاهدة المرئية لهم ، ولهم فيها علامات يختصون بمعرفتها : من التماثل والاختلاف والقدر والمساحة وأبلغ من ذلك : الناس يجتمعون لرؤية الهلال ، فيراه من بينهم الواحد والاثنان ، فيحكم بقوله أو قولهما دون بقية الجمع .

قولهم : " إنا ندرك التشابه بين الأجانب ، والاختلاف بين المشتركين في النسب " . قلنا : نعم ، لكن الظاهر الأكثر خلاف ذلك ، وهو الذي أجرى الله سبحانه وتعالى به العادة ، وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر : لا يخرجه عن أن يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه ، ألا ترى أن الفراش دليل على النسب والولادة ، وأنه ابنه ؟ ويجوز - بل يقع كثيرا - تخلف دلالته ، وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش ، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلا ، وكذلك أمارات الخرص والقسمة والتقويم وغيرها : قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها ، ولا يمنع ذلك اعتبارها ، وكذلك شهادة الشاهدين وغيرهما ، وكذلك الأقراء والقرء الواحد في الدلالة على براءة الرحم ، فإنها دليل ظاهر مع جواز تخلف دلالته ، ووقوع ذلك وأمثال ذلك كثير .

قولهم : " إن الاستلحاق موجب للحوق النسب ، وقد اشتركا فيه ، فيشتركان في موجبه " . قلنا : هذا صحيح إذا لم يتميز أحدهما بأمر خارج عن الدعوى ، فأما إذا تميز بأمر آخر ، كالفراش والشبه : كان اللحاق به ، كما لو تميز بالبينة ، بل الشبه نفسه بينة من أقوى البينات ، فإنها اسم لما يبين الحق ويظهره ، وظهور الحق هاهنا بالشبه : أقوى من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب ، وأقوى بكثير من الفراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه . قولهم : " القائف إما شاهد وإما حاكم . .. إلخ " .

قلنا : هذا فيه قولان لمن يقول بالقافة ، هما روايتان عن أحمد ، ووجهان لأصحاب الشافعي ، مبنيان على أن القائف : هل هو حاكم أو شاهد ؟ عند طائفة من أصحابنا وعند آخرين : ليسا مبنيين على ذلك ، بل الخلاف جار ، سواء قلنا : القائف حاكم أو شاهد ، كما نعتبر حاكمين في جزاء الصيد . وكذلك إذا قبلنا قوله وحده : جاز ذلك ، وإن جعلناه شاهدا ، كما نقبل قول القاسم والخارص والمقوم والطبيب ونحوهم وحده .

ومنهم من يبني الخلاف على كونه شاهدا أو مخبرا ، فإن جعلناه مخبرا اكتفي بخبره وحده ، كالخبر عن الأمور الدينية ، وإن جعلناه شاهدا لم نكتف بشهادته وحده ، وهذا أيضا ضعيف ، فإن الشاهد [ ص: 194 ] مخبر ، والمخبر شاهد وكل من شهد بشيء فقد أخبر به ، والشريعة لم تفرق بين ذلك أصلا ، وإنما هذا على أصل من اشترط في قبول الشهادة لفظ " الشهادة " دون مجرد الإخبار .

وقد تقدم بيان ضعف ذلك ، وأنه لا دليل عليه ، بل الأدلة كثيرة - من الكتاب والسنة - تدل على خلافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية