صفحة جزء
108 - ( فصل )

في التسعير وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين : إحداهما : إذا كان للناس سعر غالب ، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك ، فإنه يمنع من ذلك عند مالك . وهل يمنع من النقصان ؟ على قولين لهم . واحتج مالك رحمه الله بما رواه في موطئه " عن يونس بن يوسف عن سعيد بن المسيب : " أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة ، وهو يبيع زبيبا له بالسوق ، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا " . [ ص: 214 ]

قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس : لرأيت أن يقال له : إما لحقت بسعر الناس ، وإما رفعت ، وأما أن يقول للناس كلهم يعني - لا تبيعوا إلا بسعر كذا - فليس ذلك بالصواب ، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة ، حين حط سعرهم لمنع البحر ، فكتب " خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله " .

قال ابن رشد في كتاب البيان " : أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه ، وإنما يقال لمن شذ منهم ، فباع بأغلى مما يبيع به العامة : إما أن تبيع بما تبيع به العامة ، وإما أن ترفع من السوق ، كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة ، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له : " إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا " ; لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق .

وأما أهل الحوانيت والأسواق ، الذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة ، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا ، مثل اللحم والأدم ، والفواكه ، فقيل : إنهم كالجلابين ، لا يسعر لهم شيء من بياعاتهم ، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور : إما أن تبيع كما يبيع الناس ، وإما أن ترفع من السوق ، وهو قول مالك في هذه الرواية .

وممن روى عنه ذلك من السلف : عبد الله بن عمر ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله قيل : إنهم في هذا بخلاف الجالبين ، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس ، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبه .

وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به ، فيجعل لهم من الربح ما يشبه ، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك ، ويتفقد السوق أبدا ، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم ، فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق .

وهذا قول مالك في رواية أشهب ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وقال به ابن المسيب ، ويحيى بن سعيد ، والليث ، وربيعة .

ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم : لا تبيعوا إلا بكذا وكذا ، ربحتم أو خسرتم ، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به ، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه : لا تبيعوه إلا بكذا وكذا ، مما هو مثل الثمن أو أقل .

وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون : لم يتركهم أن يغلوا في الشراء ، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم ، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم .

وأما الشافعي : فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردي عن داود بن صالح التمار ، عن القاسم بن محمد [ ص: 215 ] عن عمر رضي الله عنه : " أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى ، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأله عن سعرهما ؟ فقال له : مدين لكل درهم ، فقال له عمر : قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا ، وهم يغترون بسعرك ، فإما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك البيت ، فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه ، ثم أتى حاطبا في داره ، فقال : إن الذي قلت لك ليس عزمة مني ، ولا قضاء ، إنما هو الشيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع " .

قال الشافعي : وهذا الحديث مستقصى .

وليس بخلاف لما رواه مالك ، ولكنه روي عن بعض الحديث ، أو رواه عنه من رواه ، وهذا أتى بأول الحديث وآخره ، وبه أقول ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم ، وهذا ليس منها .

وعلى قول مالك : فقال أبو الوليد الباجي : الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به : هو السعر الذي عليه جمهور الناس ، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر : أمروا باللحاق بسعر الناس ، أو ترك البيع ، فإن زاد في السعر واحد ، أو عدد يسير : لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره ، لأن المراعى حال الجمهور ، وبه تقوم المبيعات .

وهل يقام من زاد في السوق - أي في قدر المبيع بالدراهم - كما يقام من نقص منه ؟ قال ابن القصار المالكي : اختلف أصحابنا في قول مالك : " ولكن من حط سعرا " ، فقال البغداديون : أراد من باع خمسة بدرهم ، والناس يبيعون ثمانية ، وقال قوم من البصريين : أراد من باع ثمانية ، والناس يبيعون خمسة ، فيفسد على أهل السوق بيعهم ، وربما أدى إلى الشغب والخصومة .

قال : وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان ; لأن من باع ثمانية - والناس يبيعون خمسة - أفسد على أهل السوق بيعهم ، وربما أدى إلى الشغب والخصومة ، فمنع الجميع مصلحة .

قال أبو الوليد : ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق .

وأما الجالب : ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ، وقال ابن حبيب : ما عدا القمح والشعير بسعر الناس وإلا رفعوا ، وأما جالب القمح والشعير : فيبيع كيف شاء ، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، إن أرخص بعضهم تركوا ، وإن أرخص أكثرهم ، قيل لمن بقي : إما أن تبيعوا كبيعهم ، وإما أن ترفعوا .

قال ابن حبيب : وهذا في المكيل والموزون ، مأكولا كان أو غيره ، دون ما لا يكال ولا يوزن ، لأنه لا يمكن تسعيره ; لعدم التماثل فيه : [ ص: 216 ] قال أبو الوليد : هذا إذا كان المكيل والموزون متساويا ، فإذا اختلفا ، لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون .

التالي السابق


الخدمات العلمية