صفحة جزء
109 - ( فصل )

وأما المسألة الثانية - التي تنازعوا فيها من التسعير - : فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه ، مع قيامهم بالواجب . فهذا منع منه الجمهور ، حتى مالك نفسه في المشهور عنه ، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر ، وسالم ، والقاسم بن محمد ، وروى أشهب عن مالك - في صاحب السوق يسعر على الجزارين : لحم الضأن بكذا ، ولحم الإبل بكذا ، وإلا أخرجوا من السوق - قال : إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم ، فلا بأس به ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق .

واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ، ولا يجبر الناس على البيع ، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر ، على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري .

وأما الجمهور : فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة } قالوا : ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم .

110 - ( فصل )

وأما صفة ذلك عند من جوزه ، فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ، ويحضر غيرهم ، استظهارا على صدقهم ، فيسألهم : كيف يشترون ؟ وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد ، حتى يرضوا به ، ولا يجبرهم على التسعير ، ولكن عن رضى .

قال أبو الوليد : ووجه هذا : أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه إجحاف بالناس ، وإذا سعر عليهم من غير رضا ، بما لا ربح لهم فيه : أدى ذلك إلى فساد الأسعار ، وإخفاء الأقوات ، وإتلاف أموال الناس . [ ص: 217 ]

قال شيخنا : فهذا الذي تنازعوا فيه ، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه : فهنا يؤمرون بالواجب ، ويعاقبون على تركه ، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع .

ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال } قيل له : هذه قضية معينة ، وليست لفظا عاما ، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه ، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا بذله صاحبه - كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم .

وقد ثبت كما في " الصحيحين " : " أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك ، فقال : { من أعتق شركا له في عبد - وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد - قوم عليه قيمة عدل } ، لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد ، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد : قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ، ويعطيه قسطه من القيمة ، فإن حق الشريك في نصف القيمة ، لا في قيمة النصف عند الجمهور . وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه ، فإنه يباع ويقسم ثمنه ، إذا طلب أحد الشركاء ذلك ، ويجبر الممتنع على البيع ، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا . وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل ، ولا بما يريد من الثمن .

وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه ، للمصلحة الراجحة ، كما في الشفعة ، وأصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن . والمقصود : أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل ، لمصلحة تكميل العتق ، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة ، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك [ ص: 218 ] أعظم ، وهم إليها أضر ؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره .

وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل : هو حقيقة التسعير ، وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه ، لأجل مصلحة التكميل لواحد ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي وقع عليه العقد ، لا بما شاء المشتري من الثمن ، لأجل هذه المصلحة الجزئية ، فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب ؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها ، فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل ، لا بما يريدونه من الثمن ، وحديث العتق أصل في ذلك كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية