صفحة جزء
111 - ( فصل )

فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان ، ولا يجدون سواه ، أو النزول في خان مملوك ، أو استعارة ثياب يستدفئون بها ، أو رحى للطحن ، أو دلو لنزع الماء ، أو قدر ، أو فأس ، أو غير ذلك : وجب على صاحبه بذله بلا نزاع ، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما وجهان لأصحاب أحمد .

ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل .

قال شيخنا : والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، قال تعالى : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة : " هو إعارة القدر والدلو والفأس ونحوهم " .

وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم - وذكر الخيل - قال : { هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر : فرجل ربطها في سبيل الله ، وأما الذي هي له ستر : فرجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ، ولا في ظهورها } .

وفي " الصحيحين " عنه أيضا : { من حق الإبل : إعارة دلوها ، وإطراق فحلها } . [ ص: 219 ] وفي " الصحيحين " عنه : { أنه نهى عن عسب الفحل } أي عن أخذ الأجرة عليه ، والناس يحتاجون إليه ، فأوجب بذله مجانا ، ومنع من أخذ الأجرة عليه .

وفي " الصحيحين " عنه أنه قال : { لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره } .

ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره ، من غير ضرر لصاحب الأرض ، فهل يجبر على ذلك ؟ روايتان عن أحمد ، والإجبار : قول عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم .

وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين : " إن زكاة الحلي عاريته ، فإذا لم يعره فلا بد من زكاته " ، وهذا وجه في مذهب أحمد . قلت : وهو الراجح ، وإنه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية . والمنافع التي يجب بذلها نوعان ، منها : ما هو حق المال ، كما ذكرنا في الخيل ، والإبل ، والحلي ، ومنها : ما يجب لحاجة الناس .

وأيضا : فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة ، كتعليم العلم ، وإفتاء الناس ، والحكم بينهم ، وأداء الشهادة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من منافع الأبدان . وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه ، فإن ترك ذلك - مع قدرته عليه - أثم وضمنه .

فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج ، وقد قال تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } [ ص: 220 ] وقال : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال ، وهي أربعة أوجه في مذهب أحمد ، أحدها : أنه لا يجوز مطلقا

والثاني : أنه يجوز عند الحاجة .

والثالث : أنه لا يجوز إلا أن يتعين عليه .

والرابع : أنه يجوز ، فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء .

والمقصود : أن ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن في سراية العتق : هو لأجل تكميل الحرية ، وهو حق الله ، وما احتاج إليه الناس ، حاجة عامة ، فالحق فيه لله ، وذلك في الحقوق والحدود . فأما الحقوق : فمثل حقوق المساجد ومال الفيء والوقف على أهل الحاجات وأموال الصدقات ، والمنافع العامة .

وأما الحدود : فمثل حد المحاربة ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر المسكر .

وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك : مصلحة عامة ، ليس الحق فيها لواحد بعينه ، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية ، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق ، ولو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ، فإنه يطلب ما شاء ، وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لأنفسهم وغيرهم ، فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء : كان ضرر الناس أعظم ; ولهذا قال الفقهاء : إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير : وجب عليه بذله له بثمن المثل .

وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي : ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه : أن يبذله له بثمن المثل ، وتنازع أصحابه في جواز تسعير الطعام ، إذا كان بالناس إليه حاجة ، ولهم فيه وجهان .

وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس ، إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة ، فإذا رفع إلى القاضي : أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله ، على اعتبار السعر في ذلك ، ونهاه عن الاحتكار ، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه ، زجرا له ، ودفعا للضرر عن الناس . قالوا : فإن تعدى أرباب الطعام ، وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا ، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير : سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة .

وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر ، حيث لا يرى الحجر على الحر . ومن باع منهم بما قدره الإمام : صح ، لأنه غير مكره عليه .

قالوا : وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه ؟ على الخلاف المعروف في بيع مال [ ص: 221 ] الدين ، وقيل : يبيع هاهنا بالاتفاق ، لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام ، والسعر لما غلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع ، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه ، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق ، ولكن { نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد } أي أن يكون له سمسار .

وقال : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة ، لأنه إذا توكل له - مع خبرته بحاجة الناس - أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له ، مع أن جنس الوكالة مباح ، لما في ذلك من زيادة السعر على الناس ، ونهى عن تلقي الجلب ، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار ; ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضر البائع هنا ، فإذا لم يكن قد عرف السعر ، وتلقاه المتلقي قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لهذا البائع الخيار . ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم ، إحداهما : أن الخيار يثبت له مطلقا ، سواء غبن أم لم يغبن ، وهو ظاهر مذهب الشافعي .

والثانية : أنه إنما يثبت له عند الغبن ، وهي ظاهر المذهب .

وقالت طائفة : بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي ، فاشترى منه ، ثم باعه وفي الجملة : فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال ، حتى يعلم البائع بالسعر ، وهو ثمن المثل ، ويعلم المشتري بالسلعة .

وصاحب القياس الفاسد يقول : للمشتري أن يشتري حيث شاء ، وقد اشترى من البائع ، كما يقول : فله أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر ، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة ، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل ، فيكون المشتري غارا له . وألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل ، فإنه بمنزلة الجالب الجاهل بالسعر .

فتبين أنه يجب على الإنسان : ألا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف ، وهو ثمن المثل ، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه ، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة ، أو غير مماكسين ، والبيع يعتبر فيه الرضا ، والرضا يتبع العلم ، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى ، وقد لا يرضى ، فإذا علم أنه غبن ورضي ، فلا بأس بذلك . [ ص: 222 ]

وفي " السنن " : { أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره ، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل بدلها ، أو يتبرع له بها ، فلم يفعل ، فأذن لصاحب الأرض أن يقلعها ، وقال لصاحب الشجرة : إنما أنت مضار } . وصاحب القياس الفاسد يقول : لا يجب عليه أن يبيع شجرته ، ولا يتبرع بها ، ولا يجوز لصاحب الأرض أن يقلعها ، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وإجبار على المعاوضة عليه ، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها ، لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرض بخلاصه من تأذيه بدخول صاحب الشجرة ، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة ، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير ، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم ، فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما ، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة ، وإن أباه من أباه .

والمقصود : أن هذا دليل على وجوب البيع عند حاجة المشتري ، وأين هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره ؟ والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها - كمنافع الدور ، والطحن ، والخبز ، وغير ذلك - حكم المعاوضة على الأعيان . وجماع الأمر : أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير .

سعر عليهم تسعير عدل ، لا وكس ولا شطط ، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه : لم يفعل ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية